مفهوم الشخص مفهوم الغیر

مفهوم الشخص

المحور الأول: الشخص والهوية

كیف یمكن تفسیر ثبات الأنا أي الهویة الشخصیة رغم مختلف التغیرات؟
موقف لاشولیي
المحدد الرئیسي للشخص هو هویته، أي تطابقه مع ذاته وبالتالي تمیزه عن غیره. أما وحدته النفسیة عبر جل مراحل حیاته فهي الضامن لهذه الهویة، لأنهما لیستا نتاجا تلقائیا، بقدر ما أنهما نتاج لآلیات ربط، وهي آلیات نفسیة تقوم بمهمة السهر على وحدة الشخص وتطابقه. أولها وحدة الطبع أو السمة العامة للشخصیة، في مواقفها وردود فعلها تجاه الآخرین. وعلى هذا النحو یرى لاشولیي، أن كل من وحدة الطبع أو السمة العامة للشخصیة، هي ضمان هویتها إلى جانب الذاكرة التي اعتبرها آلیة ضروریة لربط حاضر الشخص بماضیه القریب أو البعید.
موقف دیكارت
یذهب إلى تأكید أهمیة الفكر في بناء الشخصیة وفهم حقیقتها، فالفكر صفة تخص الذات الإنسانیة وهي وحدها لصیقة بها. والتفكیر هو الشرط الضروري للوجود. إذن أساس هویة الشخص هو التفكیر الذي یعتبر مناسبة لحضور الذات أمام نفسها وإدراكها إدراكا مباشرا لكل ما یصدر عنها من أفعال والتي تبقى رغم تعددها واحدة وثابتة.
موقف جون لوك
یعطي تعریفا للشخص باعتباره ذلك الكائن المفكر والعاقل، القادر على التعقل والتأمل حیثما كان وأنى كان ومهما تغیرت الظروف، وذلك عن طریق الشعور الذي یكون لدیه عن أفعاله الخاصة وبشكل مستمر دون حدوث أي تغیر في جوهر الذات، فاقتران الشعور بالفكر على نحو دائم هو ما یكسب الشخص هویته ویجعله یبقى دائما هو هو، باعتباره كائنا عاقلا یتذكر أفعاله وأفكاره التي صدرت عنه في الماضي وهو نفسه الذي یدركها في الحاضر.

المحور الثاني: الشخص بوصفه قيمة

انصب تفكیر الفلاسفة وعلماء الاجتماع على هذا البعد، فمنه من أرجعه لذات الإنسان، ومنهم من أرجعه لعلاقته مع الغیر
موقف كانط
الإنسان كائن عاقل وهو غایة في ذاته، ولیس مجرد وسیلة یستعملها الغیر أو وسیلة یستعملها هو نفسه لتحقیق هدف ما. الإنسان خلافا للأشیاء هو الكائن الوحید الذي له قیمة مطلقة لأنه غایة في ذاته. لهذا السبب یسمى الإنسان شخصا وتسمى الموجودات الأخرى أشیاء. فلا یمكن تقوین الإنسان بسعر كما نفعل بالأشیاء والحیوانات: الإنسان لیس قابلا للبیع. فهو كشخص یعتبر قیمة تتجاوز كل سعر. إنه شخص، غایة في ذاته، له كرامة ویتمتع بالاحترام واحترامه هذا یعني احترام الإنسانیة التي یمثلها.
موقف هیجل
الشخص یكتسب قیمته الأخلاقیة عندما یعي ذاته وحریته وینفتح على الواقع الذي ینتمي إلیه، بالدخول مع الجماعة في علاقة تعاون متبادلة امتثالا للواجب.
موقف غوسدورف
یعرف الشخص انطلاقا من كونه عنصرا مكونا للجماعة وهو ما یعني أن قیمة التضامن بین أفراد الجماعة مكون أساسي لقیمته بحث أن أنانیته ستضر بالغیر وبنفسه أیضا. التضامن والتعایش هو أساس قیمة الشخص وكماله، لأن الانعزالیة والأنانیة والفردانیة تجعل الشخص معادیا لنفسه ولإنسانیته وللغیر. بما أنه شخص ولیس بهیمة فإن وجوده لا یتحقق إلا بمشاركة الآخرین حیاتهم وبالتواجد داخل الجماعة وبقبول الغیر. وخلاصة هذا الموقف أن الشخص لیس هو ما یملك وإنما هو اخذ وعطاء.

المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية

اختلف الفلاسفة في تحدید موقف ووضع الإنسان داخل المجتمع، فمنهم من اعترف بعدم حریته لأن خضوعه للضرورة هو الشكل الوحید للحیاة مع الناس وفي الكون، ومنهم من رأى أن الوعي والاختیار یمكنان الإنسان كشخص من العیش حرا.
موقف سارتر
یمیز سارتر بین الوجود والماهیة. والإنسان هو الكائن الوحید الذي یبق وجوده ماهیته، ولهذا فهو یتجاوز وضعه إلى وضع آخر عبر الإرادة والفعل والشغل...
موقف مونیي
الشخص حر لأنه یقبل الظرف والوضع الذي یتواجد فیه لأن الحریة لا تتحقق إلا في مواجهة العوائق والحواجز، وعن طریق الاختیار بین عدة اختیارات والتضحیة، أي بذل جهد للتغلب على المعیقات الداخلیة والخارجیة. الحریة تتحقق داخل شروط تلزم الشخص بتأثیرها. لیست الحریة هي أن نفعل ما نرید وإنما أن نصارع ظروفا معیقة ونتغلب علیها.
موقف اسبینوزا
یذهب إلى اعتبار أن ما یمیز الشخص عن باقي الكائنات الأخرى، هو سعیه للحفاظ على بقائه واستمراره، وهو سعي یتأسس على الإرادة الحرة. ولیست الحریة هنا بمعنى الجواز، بل إنها تقترن بالفضیلة والكمال، ولیس بالعجز أو الضعف، وفق ما تقتضیه قوانین الطبیعة الإنسانیة من قدرة على استخدام العقل للتمییز بین الخیر والشر، وتفضیل الأول على الثاني.

مفهوم الغیر

كیف نستدل على وجود الغیر باعتباره وجودا خارج الذات، بالرغم من أنه وجود مختلف عن باقي الموضوعات الأخرى التي تشكل العالم الخارجي؟

المحور الأول: وجود الغیر

موقف دیكارت
كان أول فیلسوف حاول إقامة مفارقة بین الأنا الفردیة الواعیة وبین الغیر، حیث أراد دیكارت لنفسه أن یعیش عزلة إبستیمیة، رافضا كل استعانة بالغیر في أثناء عملیة الشك. فرفض الموروث من المعارف، واعتمد على إمكاناته الذاتیة، لأنه یرید أن یصل إلى ذلك الیقین العقلي الذي یتصف بالبداهة والوضوح والتمیز... فوجود الغیر في إدراك الحقیقة لیس وجودا ضروریا، ومن ثمة یمكن أن نقول: إن تجربة الشك التي عاشها دیكارت تمت من خلال إقصاء الغیر... والاعتراف بالغیر لا یأتي إلا من خلال قوة الحكم العقلي حیث یكون وجود الغیر وجودا استدلالیا.
موقف هیجل
تجاوز هذا الشعور السلبي بوجود الغیر، لأنه رأى أن الذات حینما تنغمس في الحیاة لا یكون وعیها وعیا للذات، وإنما نظرة إلى الذات باعتبارها عضویة. فوعي الذات لنفسها – في اعتقاد هیجل – یكون من خلال اعتراف الغیر بها. وهذه عملیة مزدوجة یقوم بها الغیر كما تقوم بها الذات. واعتراف أحد الطرفین بالآخر لابد أن ینتزع. هكذا تدخل الأنا في صراع حتى الموت مع الغیر، وتستمر العلاقة بینهما في إطار جدلیة العبد والسید. هكذا یكون وجود الغیر بالنسبة إلى الذات وجودا ضروریا.
موقف سارتر
یرى الغیر ما هو إلا أنا آخر، أي كأنا مماثل لأناي، إلا أنه مستقل عنه، لكن وجود الغیر هو كذلك نفي لأناي، من حیث هو مركز للعالم. ویترتب على وجود الغیر هذا نتائج هامة وحاسمة لا على مستوى أناي فحسب، بل على مستوى علاقتي مع العالم الخارجي.
إن ما سبق یظهر التناقض الحاصل بین التمثلین الدیكارتي والهیجلي، ففي الوقت الذي یقصي فیه دیكارت وجود الغیر، یعتبره هیجل وجودا ضروریا. وهذا یتولد عنه السؤال التالي:  هل معرفة الغیر ممكنة ؟ وكیف تتم معرفته؟

المحور الثاني: معرفة الغیر

إن معرفة الغیر تمثل علاقة "إبستیمیة " بین طرفین، أحدهما یمثل الأنا العارفة والآخر یمثل موضوع المعرفة. الشيء الذي یدفعنا إلى طرح التساؤل التالي: هل نعرف الغیر بوصفه ذاتا أم موضوعا ؟ بمعنى آخر، هل معرفة الغیر ممكنة أم مستحیلة؟
موقف سارتر
یطرح العلاقة المعرفیة بین الأنا والغیر في إطار فینومینولوجي (ظاهراتي)، فالغیر في اعتقاده هو "ذلك الذي لیس هو أنا، ولست أنا هو". وفي حالة وجود علاقة عدمیة بین الأنا والغیر، فإنه لا یمكنه "أن یؤثر في كینونتي بكینونته"، وفي هذه الحالة ستكون معرفة الغیر غیر ممكنة. لكن بمجرد الدخول في علاقة معرفیة مع الغیر معناه تحویله إلى موضوع (أي تشییئه):  أي أننا ننظر إلیه كشيء خارج عن دواتنا ونسلب منه جمیع معاني الوعي والحریة والإرادة والمسؤولیة. وهذه العلاقة متبادلة بین الأنا والغیر: فحین أدخل في مجال إدراك الآخر، فإن نظرته إلي تقیدني وتحد من حریتي وتلقائیتي، لأنني أنظر إلى نفسي نظرة الآخر إلي. إن نظرة الغیر إلي تشیئني، كما تشیئه نظرتي إلیه. هكذا تبدو كینونة الغیر متعالیة عن مجال إدراكنا ما دامت معرفتنا للغیر معرفة انطباعیة حسیة.
موقف میرلوبونتي
له موقف آخر إذ یرى أن "نظرة الغیر لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع " ؛ إلا في حالة واحدة وهي أن ینغلق كل واحد في ذاته وتأملاته الفردیة. مع العلم أن هذا الحاجز یمكن تكسیره بالتواصل، فبمجرد أن تدخل الذات في التواصل مع الغیر حتى تكف ذات الغیر عن التعالي عن الأنا، ویزول بذلك العائق الذي یعطي للغیر صورة عالم یستعصي بلوغه.

المحور الثالث: العلاقة مع الغیر

هل العلاقة مع الغیر هي علاقة تكامل أم تنافر
موقف كانط
یرى أن علاقة الصداقة هي أسمى وأنبل العلاقات الإنسانیة لأنها قائمة على الاحترام المتبادل. وأساسها الإرادة الأخلاقیة الخیرة. فالصداقة باعتبارها واجبا أخلاقیا، تشترط وجود المساواة وعلاقة التكافؤ، وهي أیضا نقطة تماس بین الحب والاحترام. وهذا ما یمنح الإنسان توازنه وعدم الإفراط سواء في الاحترام أو الحب.
موقف أفلاطـون
یعتبر أن علاقة الصداقة تنبثق من الحالة الوجودیة الوسط التي تطبع وجود الإنسان، وهي حالة وسط بین الكمال المطلق والنقص المطلق تدفع الإنسان إلى البحث الدائم عما یكمله في علاقته مع الآخرین... فالكمال الأقصى یجعل الإنسان في حالة اكتفاء ذاتي لا یحتاج فیها إلى الغیر، وفي حالة النقص المطلق تنعدم لدیه الرغبة في طلب الكمال والخیر. من هنا تقوم الصداقة كعلاقة محبة متبادلة یبحث فیها الأنا عما یكمله في الغیر، یتصف فیها كل طرف بقدر كاف من الخیر أو الكمال یدفعه إلى طلب كمال أسمى، وبقدر من النقص الذي لا یحول

درس الشخص

الطرح الإشكالي

إن الحديث عن الشخص هو حديث عن الذات أو الأنا، والشخص هو مجموع السمات المميزة للفرد الذي هو في الأصل كيان نفسي واجتماعي متشابه مع الآخرين، ومتميز عنهم في نفس الوقت، لكن هويته ليست معطى جاهزا، بل هي خلاصة تفاعل عدة عناصر فيها ما هو بيولوجي، وما هو نفسي، وما هو اجتماعي …، وهذا ما يجعلنا نطرح إشكال الشخص على شكل أسئلة فلسفية وهي:
  • فيما تتمثل هوية الشخص؟
  • أين تكمن قيمته؟
  • هل الشخص في حر تصرفاته؟ أم يخضع لضرورات حتمية؟

المحور الأول: الشخص والهوية

الهوية والشعور

تتمثل هوية الشخص في نظر "جون لوك" في كونه كائنا عاقلا قادرا على التفكير والتأمل بواسطة الشعور الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة، حيث لا يمكن الفصل بين الشعور والفكر، لأن الكائن البشري لا يمكن أن يعرف أنه يفكر إلا إذا شعر أنه يفكر، وكلما امتد هذا الشعور ليصل إلى الأفعال والأفكار الماضية، اتسعت وامتدت هوية الشخص لتشمل الذاكرة، لأن الفعل الماضي صدر عن الذات نفسها التي تدركه في الحاضر، إن هذا الشعور حسب لوك هو الذي يشكل الهوية الشخصية للفرد التي تجعله يشعر أنه هو هو لا يتغير، كما تجعله يشعر باختلافه عن الآخرين.

الهوية والإرادة

يلاحظ آرثر شوبنهاور أن الفرد يكبر ويشيخ، لكنه يحس في أعماقه أنه لازال هو هو كما كان في شبابه وحتى في طفولته، هذا العنصر الثابت هو الذي يشكل هوية الشخص، إلا أن شوبنهاور لا يرجع أصل الهوية إلى الجسم، لأن هذا الأخير يتغير عبر السنين، سواء على مستوى مادته أو صورته، في حين أن الهوية ثابتة الشعور بالذاكرة والماضي، لأن الكثير من الأحداث الماضية للفرد يطويها النسيان، كما أن إصابة في المخ قد تحرمه من الذاكرة بشكل كلي، ومع ذلك فهو لا يفقد هويته العقل والتفكير، لأنه ليس إلا وظيفة بسيطة للمخ، إن هوية الشخص في تصور شوبنهاور تتمثل في الإرادة، أي في أن نريد أو لا نريد.

المحور الثاني: الشخص بوصفه قيمة

قيمة الشخص في ذاته

إن الكائنات العاقلة (الأشخاص) في تصور إيمانويل كانط لها قيمة مطلقة باعتبارها غاية في حد ذاتها، وليست مجرد وسيلة لغايات أخرى، في مقابل الموضوعات غير العاقلة (الأشياء) التي ليست له اإلا قيمة نسبية، قيمة مشروطة بميولات وحاجات الإنسان لها، حيث لو لم تكن هذه الميولات والحاجات موجودة لكانت تلك الموضوعات بدون قيمة، إن لها قيمة الوسائل فقط وهذا ما يحتم على الشخص حسب كانط، الالتزام بمبدأ عقلي أخلاقي عملي إن: هو الطبيعة العاقلة (الشخص) توجد كغاية في ذاتها.

قيمة الشخص والجماعة

إن فكرة استقلال الذات المفكرة والشخص الأخلاقي، وكما تمت صياغتها من طرف الفلاسفة (ديكارت، كانط...) لم تتحقق في الفكر الإنساني إلا في وقت متأخر في نظر جورج غوسدورف، لكن بالرجوع إلى بداية الوجود الإنساني وكما عاشها الناس فعليا، فإننا نجد الفرد كان يعيش ضمن الجماعة من خلال أشكال التضامن البسيطة والأساسية (الأسرة، العشيرة، القبيلة ...) التي سمحت لهذه الجماعة بالبقاء، إن قيمة الشخص إذن لا تتحدد في مجال الوجود الفردي حسب غوسدورف، ولكن في مجال التعايش داخل المجموعة البشرية.

المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية

الشخص والضرورة

لقد أقر سيغموند فرويد للأنا بوجود مستقل كأحد مكونات الجهاز النفسي للشخصية، وله نشاط شعوري يتمثل في الإدراك الحسي الخارجي والإدراك الحسي الداخلي، والعمليات الفكرية، ويضطر للخضوع لثلاث ضغوطات متناقضة، وهي الهو الذي يتمثل في الدوافع الفطرية والغريزية، والأنا الأعلى الذي يتجلى في الممنوعات الصادرة عن المثل الأخلاقية، والعقاب الذي تمارسه بواسطة تأنيب الضمير، إضافة إلى الحواجز التي يضعها العالم الخارجي والاجتماعي، إن الأنا يخضع حسب فرويد، لضرورات الهو، والأنا الأعلى، والعالم الخارجي.

الشخص والحرية

إن الإنسان حسب سارتر يوجد أولا، أي ينبثق في هذا العالم ثم يتحدد بعد ذلك وفق ما سيصنع بنفسه، وكما يريد أن يكون في المستقبل، إن الإنسان مشروع يعاش بكيفية ذاتية، هذا الكائن المادي يتجاوز دائما الوضعية التي يوجد فيها، ويحددها، وذلك بالتعالي عليها لكي يتموضع بواسطة الشغل أو الفعل أو الحركة في إحدى الإمكانات المتاحة أمامه، وبما أن هذه الوثبة تتخذ أشكالا متنوعة بحسب الأفراد، فإننا نسميها كذلك اختيارا وحرية، إن الشخص في نظر سارتر يتمثل قي قدرته على الحرية في الاختيار.

استنتاجات عامة

إن هوية الشخص ليست معطى بسيطا، بل هي عنصر مركب يتشكل من مجموع السمات التي تميز ذات الإنسان، والتي تتجلى في الخصائص الجوهرية والثابتة فيه كالعقل، والشعور، والإرادة.
إن قيمة الشخص ذات طبيعة مزدوجة، فهي قيمة تمسه كفرد يمتلك كرامة تلزمنا أن نتعامل معه كغاية في ذاته، كما تمسه كعنصر داخل الجماعة ما دامت الجماعة هي التي تمنح الفرد قيمته.
إن الشخص يخضع لمجموعة من الشروط التي تتحكم في أفعاله وتصرفاته، لكنه في نفس الوقت يمتلك هامشا من الحرية، يستطيع من خلاله أن يعدل إن لم نقل يغير تلك الشروط.
***********


الطرح الإشكالي

إن مفهوم الغير من المفاهيم الفلسفية الحديثة التي لم تحتل مركز الصدارة إلا مع فلسفة هيغل، بعدما كان كل اهتمام التفكير الفلسفي يتمحور حول الذات، وبما أن الذات قد تنتج أفكارا خاطئة حول موضوعات خارجية نتيجة خداع الحواس، فإن هذا الأمر قد يدفع إلى الشك في الغير، ووضع وجوده بين قوسين، مما يترتب عن ذلك أن إنتاج معرفة حول الغير تتميز بالاختلاف، بل احتمال عدم إنتاجها أصلا، إضافة إلى تعدد وتنوع العلاقة التي تربطنا به، وهذا ما يمكن التعبير عنه بواسطة الأسئلة الآتية:

هل الغير موجود أم لا؟

هل معرفة الغير ممكنة؟ وإن كانت كذلك كيف يمكن أن نبني هذه المعرفة؟

ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالغير؟

المحور الأول: وجود الغير

وجود الغير والصراع

يكون وعي الذات وجودا بسيطا لذاته حسب فريدريك هيغل تقوم ماهيته في كونه أنا، غير أن الآخر هو أيضا وعي لذاته، باعتباره لا / أنا، هكذا تنبثق ذات أمام ذات، يكون كل واحد بالنسبة للآخر عبارة عن موضوع، كل منهما متيقن من وجود ذاته، وليس متيقنا من وجود الآخر، لكن مازال لم يقدم بعد أحدهما نفسه للآخر، تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها أمام الآخر في إظهار أنها ليست متشبثة بالحياة، وهي نفس العملية التي يقوم بها الآخر حينما يسعى إلى موت الآخر، أي الأنا، إن وجود الغير بالنسبة للأنا في تصور هيغل يتم بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت، لأن على كل منهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاته، وبالنسبة للآخر.

وجود الغير ووجود الذات

إن الموجود هنا باعتباره وجودا فرديا خاصا لا يكون مطابقا لذاته – في نظر مارتن هايدغر – عندما يوجد على نمط الوجود "مع / الغير"، فهذا الوجود المشترك يذيب كليا الموجود هنا، الذي هو وجودي الخاص في نمط وجود الغير، بحيث يجعل الآخرين يختفون ويفقدون ما يميزهم وما ينفردون به، مما يسمح بسيطرة الضمير المبني للمجهول، هذا المجهول ليس شخصا متعينا، إنه لا أحد، كما أن بإمكان أي كان أن يمثله، إن وجود الغير – في تصور هايدغر – يهدد وجود الذات من خلال إذابتها وسط الآخرين، ووسط المجهول.

المحور الثاني: معرفة الغير

الغير والحميمية

إن حميميتي، أي حياتي الخاصة هي عائق أمام كل تواصل مع الغير، يقول غاستون بيرجي: "حيث تجعلني سجين ذاتي، فالتجربة الذاتية وحدها هي الوجود الحقيقي بالنسبة لي، وهي تجربة غير قابلة للنقل إلى الآخر، فأنا أعيش وحيدا وأشعر بالعزلة، كما أن عالم الغير منغلق أمامي بقدر انغلاق عالمي أمامه، فعندما يتألم الغير يمكنني مساعدته، ومواساته ومحاولة تخفيف الألم الذي يمزقه، غير أن ألمه يبقى رغم ذلك ألما خارجيا بالنسبة لذاتي، فتجربة الألم تظل تجربته الشخصية وليست تجربتي"، وهكذا تتعذر معرفة الغير – في نظر بيرجي – مادام الإنسان كائنا سجينا في آلامه، ومنعزلا في لذّاته، ووحيدا في موته، محكوما عليه بأن لا يشبع أبدا رغبته في التواصل.

الغير بنية

إن الغير ليس فردا مشخصا بعينه – حسب جيل دولوز – بل هو بنية أو نظام العلاقات والتفاعلات بين الذوات والأشخاص، يتجلى هذا النظام في المجال الإدراكي الحسي، مثلا فأنا حين أدرك الأشياء المحيطة بي لا أدركها كلها ومن جميع جهاتها وجوانبها وباستمرار، وهذا يفترض أن يكون ثمة آخرون يدركون مالا أدركه من الأشياء، وفي الوقت الذي لا أدركه، وإلا بدت الأشياء وكأنها تنعدم حين لا أدركها وتعود إلى الوجود حين أدركها مجددا، وإذا كان هذا مستحيلا، فإن الغير إذن يشاركني إدراك الأشياء، ويكمل إدراكي لها، وهكذا يجرد دولوز الغير من معناه الفردي المشخص، ويضمنه معنى بنيويا.

المحور الثالث: العلاقة مع الغير

علاقة الصداقة

إن الصداقة باعتبارها مثالا هي اتحاد شخصين يتبادلان نفس مشاعر الحب والاحترام، في نظر إيمانويل كانط وغاية هذا المثال هو تحقيق الخير للصديقين الذين جمعت بينهما إرادة طيبة، يتولد عن مشاعر الحب تجاذب بين الصديقين، في حين يتولد عن مشاعر الاحترام تباعد بينهما، إذا تناولنا الصداقة من جانبها الأخلاقي فواجب الصديق تنبيه صديقه إلى أخطائه متى ارتكابها، لأن الأول يقوم بهذا التنبيه لأجل خير الثاني، وهذا واجب حب الأول للثان، بينما تشكل أخطاء الثاني تجاه الصديق الأول إخلالا بمبدأ الاحترام بينهما، لا يجب إذن أن تقوم الصداقة – حسب كانط – على منافع مباشرة ومتبادلة، بل يجب أن تقوم على أساس أخلاقي خالص.

علاقة الغرابة

لقد رفضت جوليا كريستيفا المعنى اليوناني القديم لمفهوم الغريب المرتبط بالآخر، الذي نكن له مشاعر الحقد باعتباره ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة، أو ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى المجتمع، إن الغريب في نظرها يسكننا على نحو غريب، ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا نستبعد أن نبغضه في ذاته، إن الغريب يبدأ عندما ينشأ لدي – تقول كريستيفا – الوعي باختلافي، وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا وندرك أننا غرباء متمردون على الروابط والجماعات، كما انتقدت كريستيفا الدلالة الحقوقية المعاصرة للغريب التي تطلق على من لا يتمتع بمواطنة البلد الذي يقطنه، لأنها تسكت عن وضعية المختلف التي يتخذها الإنسان داخل جماعة بشرية تنغلق على نفسها مقصية المخالفين لها.

استنتاجات عامة

هناك فرق بين الآخر والغير، فإذا كان الآخر هو ذلك الكائن المادي الذي يتميز بوجود واقعي إلى جانب أو في مقابل الذات، فإن الغير مفهوم فلسفي نظري يتضمن الخصائص المجردة للآخر.

إن مفهوم الغير مفهوم يتضمن معرفة متناقضة حول الآخر، فتارة يحدده كأنا آخر باعتباره متطابقا مع الذات، وطورا يحدده باعتباره لا – أنا مركزا على مظاهر التناقض مع الذات.


إن العلاقة مع الغير في الحقيقة هي علاقة بصيغة الجمع، تتميز بالتعدد والتنوع. تبدأ بعلاقة الحب والاحترام والصداقة، مرورا بعلاقة الغرابة والقرابة …، وتنتهي مع علاقة الصراع والتنافس والعداوة.

مواقف الفلاسفة الشخص

الشخص

الشخص والهوية

  • ديكارت: هوية الشخص تقوم على القدرة على التفكير، والقدرة على التفكير في ذلك التفكير نفسه. واختلاف طريقة التفكير من شخص لآخر.
  • جون لوك: هوية الشخص تقوم على إدراك الإحساس عبر الزمان والمكان، الأمر الذي يستدعي عمل الذاكرة.
  • إيمانويل مونيي: هوية الشخص تكمن في الوحدة والكلية والشمولية التي تطبع  كينونته الداخلية، وهي الكينونة التي تختلف من هذا الشخص الى ذاك.

الشخص بين الضرورة والحرية

  • مونيي: العلوم الإنسانية تركز على تفسير السلوكات الصادرة عن الشخصية  وهي السلوكات الخاضعة للحتمية والضرورة.
  • سارتر: الإنسان مشروع قادر على موضعة نفسه في المستقبل، حيث تتعدد الاختيارات وتكون له الحرية في اختيار واحد منها، وتحمل مسؤولية اختياره.
  • الحبابي: حرية الشخص تكن في قدرته على التحرر من الكائن الى الشخص وبالتالي الى الإنسان.

الشخص بوصفه قيمة

  • كانط: يستمد الشخص قيمته من كونه ذاتا لعقل عملي أخلاقي، يقوم على مفهومي الواجب والفضيلة والكرامة الإنسانية.
  • هيجل: يستمد الشخص قيمته من كونه يمتثل لروح شعبه من خلال قيامه بالواجبات و امتثاله لها.
  • راولس: يستمد الشخص قيمته من كونه مواطنا له القدرة على التأثير و احترام الواجبات، وامتلاك حس العدالة والخير.

الغير

وجود الغير

  • هيدجر: وجود الغير يفرض على الذات الانخراط فيه، وبذلك يصبح غير متين أو ضميرا مبنيا للمجهول أو لا أحد.
  • ميرلوبونتي: من الصعب تحديد وجود الغير لأنه يجمع بين الوجود في ذاته (الجسد) والوجود من أجل ذاته (الوعي) وهذا الأخير هو ما يحول دون تحديد وجوده.
  • سارتر: وجود الغير هو وجود شيء أو موضوع نظرا للعدم أو المسافة الفاصلة بيني وبينه، وهو ما يجعله يشيئني بدوره.

معرفة الغير

  • شلر: معرفة الغير ممكنة إذا ما تناولناه باعتباره كلا لا يمكن الفصل بين مظاهره الخارجية وإحساساته الداخلية.
  • جيل دولوز: يمكن معرفة الغير باعتباره بنية للحقل الإدراكي، وتفسير ما يصدر عنه من سلوكات انطلاقا من تلك البنية الممكنة.
  • مالبرانش: من الصعب معرفة الغير انطلاقا من الاستدلال بالمماثلة، لأن الغير يشبهنا في جوانب،و يختلف في جوانب عنا في أخرى.

العلاقة مع الغير

  • أوغست كونت: ينبغي أن تقوم العلاقة مع الغير على التعاطف والعيش من أجله، كرد للدين الذي قدمته لنا الإنسانية (الغيرية).
  • ميرلوبونتي: من الصعب تحديد وجود الغير لأنه يجمع بين الوجود في ذاته (الجسد) والوجود من أجل ذاته (الوعي) وهذا الأخير هو ما يحول دون تحديد وجوده.
  • جوليا كريستيفا: الغير هو الغريب ، لكن الغريب ليس هو ذلك الدخيل أو البعيد، بل إنه يوجد بيننا ويسكننا على نحو غريب.


المواقف الفلسفية لمجزوءات الثانية باك علمي وتقني

مفهوم الشخص

المحور الأول: الشخص والهوية

كیف یمكن تفسیر ثبات الأنا أي الهویة الشخصیة رغم مختلف التغیرات؟
موقف لاشولیي
المحدد الرئیسي للشخص هو هویته، أي تطابقه مع ذاته وبالتالي تمیزه عن غیره. أما وحدته النفسیة عبر جل مراحل حیاته فهي الضامن لهذه الهویة، لأنهما لیستا نتاجا تلقائیا، بقدر ما أنهما نتاج لآلیات ربط، وهي آلیات نفسیة تقوم بمهمة السهر على وحدة الشخص وتطابقه. أولها وحدة الطبع أو السمة العامة للشخصیة، في مواقفها وردود فعلها تجاه الآخرین. وعلى هذا النحو یرى لاشولیي، أن كل من وحدة الطبع أو السمة العامة للشخصیة، هي ضمان هویتها إلى جانب الذاكرة التي اعتبرها آلیة ضروریة لربط حاضر الشخص بماضیه القریب أو البعید.
موقف دیكارت
یذهب إلى تأكید أهمیة الفكر في بناء الشخصیة وفهم حقیقتها، فالفكر صفة تخص الذات الإنسانیة وهي وحدها لصیقة بها. والتفكیر هو الشرط الضروري للوجود. إذن أساس هویة الشخص هو التفكیر الذي یعتبر مناسبة لحضور الذات أمام نفسها وإدراكها إدراكا مباشرا لكل ما یصدر عنها من أفعال والتي تبقى رغم تعددها واحدة وثابتة.
موقف جون لوك
یعطي تعریفا للشخص باعتباره ذلك الكائن المفكر والعاقل، القادر على التعقل والتأمل حیثما كان وأنى كان ومهما تغیرت الظروف، وذلك عن طریق الشعور الذي یكون لدیه عن أفعاله الخاصة وبشكل مستمر دون حدوث أي تغیر في جوهر الذات، فاقتران الشعور بالفكر على نحو دائم هو ما یكسب الشخص هویته ویجعله یبقى دائما هو هو، باعتباره كائنا عاقلا یتذكر أفعاله وأفكاره التي صدرت عنه في الماضي وهو نفسه الذي یدركها في الحاضر.

المحور الثاني: الشخص بوصفه قيمة

انصب تفكیر الفلاسفة وعلماء الاجتماع على هذا البعد، فمنه من أرجعه لذات الإنسان، ومنهم من أرجعه لعلاقته مع الغیر
موقف كانط
الإنسان كائن عاقل وهو غایة في ذاته، ولیس مجرد وسیلة یستعملها الغیر أو وسیلة یستعملها هو نفسه لتحقیق هدف ما. الإنسان خلافا للأشیاء هو الكائن الوحید الذي له قیمة مطلقة لأنه غایة في ذاته. لهذا السبب یسمى الإنسان شخصا وتسمى الموجودات الأخرى أشیاء. فلا یمكن تقوین الإنسان بسعر كما نفعل بالأشیاء والحیوانات: الإنسان لیس قابلا للبیع. فهو كشخص یعتبر قیمة تتجاوز كل سعر. إنه شخص، غایة في ذاته، له كرامة ویتمتع بالاحترام واحترامه هذا یعني احترام الإنسانیة التي یمثلها.
موقف هیجل
الشخص یكتسب قیمته الأخلاقیة عندما یعي ذاته وحریته وینفتح على الواقع الذي ینتمي إلیه، بالدخول مع الجماعة في علاقة تعاون متبادلة امتثالا للواجب.
موقف غوسدورف
یعرف الشخص انطلاقا من كونه عنصرا مكونا للجماعة وهو ما یعني أن قیمة التضامن بین أفراد الجماعة مكون أساسي لقیمته بحث أن أنانیته ستضر بالغیر وبنفسه أیضا. التضامن والتعایش هو أساس قیمة الشخص وكماله، لأن الانعزالیة والأنانیة والفردانیة تجعل الشخص معادیا لنفسه ولإنسانیته وللغیر. بما أنه شخص ولیس بهیمة فإن وجوده لا یتحقق إلا بمشاركة الآخرین حیاتهم وبالتواجد داخل الجماعة وبقبول الغیر. وخلاصة هذا الموقف أن الشخص لیس هو ما یملك وإنما هو اخذ وعطاء.

المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية

اختلف الفلاسفة في تحدید موقف ووضع الإنسان داخل المجتمع، فمنهم من اعترف بعدم حریته لأن خضوعه للضرورة هو الشكل الوحید للحیاة مع الناس وفي الكون، ومنهم من رأى أن الوعي والاختیار یمكنان الإنسان كشخص من العیش حرا.
موقف سارتر
یمیز سارتر بین الوجود والماهیة. والإنسان هو الكائن الوحید الذي یبق وجوده ماهیته، ولهذا فهو یتجاوز وضعه إلى وضع آخر عبر الإرادة والفعل والشغل...
موقف مونیي
الشخص حر لأنه یقبل الظرف والوضع الذي یتواجد فیه لأن الحریة لا تتحقق إلا في مواجهة العوائق والحواجز، وعن طریق الاختیار بین عدة اختیارات والتضحیة، أي بذل جهد للتغلب على المعیقات الداخلیة والخارجیة. الحریة تتحقق داخل شروط تلزم الشخص بتأثیرها. لیست الحریة هي أن نفعل ما نرید وإنما أن نصارع ظروفا معیقة ونتغلب علیها.
موقف اسبینوزا
یذهب إلى اعتبار أن ما یمیز الشخص عن باقي الكائنات الأخرى، هو سعیه للحفاظ على بقائه واستمراره، وهو سعي یتأسس على الإرادة الحرة. ولیست الحریة هنا بمعنى الجواز، بل إنها تقترن بالفضیلة والكمال، ولیس بالعجز أو الضعف، وفق ما تقتضیه قوانین الطبیعة الإنسانیة من قدرة على استخدام العقل للتمییز بین الخیر والشر، وتفضیل الأول على الثاني.

مفهوم الغیر

كیف نستدل على وجود الغیر باعتباره وجودا خارج الذات، بالرغم من أنه وجود مختلف عن باقي الموضوعات الأخرى التي تشكل العالم الخارجي؟

المحور الأول: وجود الغیر

موقف دیكارت
كان أول فیلسوف حاول إقامة مفارقة بین الأنا الفردیة الواعیة وبین الغیر، حیث أراد دیكارت لنفسه أن یعیش عزلة إبستیمیة، رافضا كل استعانة بالغیر في أثناء عملیة الشك. فرفض الموروث من المعارف، واعتمد على إمكاناته الذاتیة، لأنه یرید أن یصل إلى ذلك الیقین العقلي الذي یتصف بالبداهة والوضوح والتمیز... فوجود الغیر في إدراك الحقیقة لیس وجودا ضروریا، ومن ثمة یمكن أن نقول: إن تجربة الشك التي عاشها دیكارت تمت من خلال إقصاء الغیر... والاعتراف بالغیر لا یأتي إلا من خلال قوة الحكم العقلي حیث یكون وجود الغیر وجودا استدلالیا.
موقف هیجل
تجاوز هذا الشعور السلبي بوجود الغیر، لأنه رأى أن الذات حینما تنغمس في الحیاة لا یكون وعیها وعیا للذات، وإنما نظرة إلى الذات باعتبارها عضویة. فوعي الذات لنفسها – في اعتقاد هیجل – یكون من خلال اعتراف الغیر بها. وهذه عملیة مزدوجة یقوم بها الغیر كما تقوم بها الذات. واعتراف أحد الطرفین بالآخر لابد أن ینتزع. هكذا تدخل الأنا في صراع حتى الموت مع الغیر، وتستمر العلاقة بینهما في إطار جدلیة العبد والسید. هكذا یكون وجود الغیر بالنسبة إلى الذات وجودا ضروریا.
موقف سارتر
یرى الغیر ما هو إلا أنا آخر، أي كأنا مماثل لأناي، إلا أنه مستقل عنه، لكن وجود الغیر هو كذلك نفي لأناي، من حیث هو مركز للعالم. ویترتب على وجود الغیر هذا نتائج هامة وحاسمة لا على مستوى أناي فحسب، بل على مستوى علاقتي مع العالم الخارجي.
إن ما سبق یظهر التناقض الحاصل بین التمثلین الدیكارتي والهیجلي، ففي الوقت الذي یقصي فیه دیكارت وجود الغیر، یعتبره هیجل وجودا ضروریا. وهذا یتولد عنه السؤال التالي:  هل معرفة الغیر ممكنة ؟ وكیف تتم معرفته؟

المحور الثاني: معرفة الغیر

إن معرفة الغیر تمثل علاقة "إبستیمیة " بین طرفین، أحدهما یمثل الأنا العارفة والآخر یمثل موضوع المعرفة. الشيء الذي یدفعنا إلى طرح التساؤل التالي: هل نعرف الغیر بوصفه ذاتا أم موضوعا ؟ بمعنى آخر، هل معرفة الغیر ممكنة أم مستحیلة؟
موقف سارتر
یطرح العلاقة المعرفیة بین الأنا والغیر في إطار فینومینولوجي (ظاهراتي)، فالغیر في اعتقاده هو "ذلك الذي لیس هو أنا، ولست أنا هو". وفي حالة وجود علاقة عدمیة بین الأنا والغیر، فإنه لا یمكنه "أن یؤثر في كینونتي بكینونته"، وفي هذه الحالة ستكون معرفة الغیر غیر ممكنة. لكن بمجرد الدخول في علاقة معرفیة مع الغیر معناه تحویله إلى موضوع (أي تشییئه):  أي أننا ننظر إلیه كشيء خارج عن دواتنا ونسلب منه جمیع معاني الوعي والحریة والإرادة والمسؤولیة. وهذه العلاقة متبادلة بین الأنا والغیر: فحین أدخل في مجال إدراك الآخر، فإن نظرته إلي تقیدني وتحد من حریتي وتلقائیتي، لأنني أنظر إلى نفسي نظرة الآخر إلي. إن نظرة الغیر إلي تشیئني، كما تشیئه نظرتي إلیه. هكذا تبدو كینونة الغیر متعالیة عن مجال إدراكنا ما دامت معرفتنا للغیر معرفة انطباعیة حسیة.
موقف میرلوبونتي
له موقف آخر إذ یرى أن "نظرة الغیر لا تحولني إلى موضوع، كما لا تحوله نظرتي إلى موضوع " ؛ إلا في حالة واحدة وهي أن ینغلق كل واحد في ذاته وتأملاته الفردیة. مع العلم أن هذا الحاجز یمكن تكسیره بالتواصل، فبمجرد أن تدخل الذات في التواصل مع الغیر حتى تكف ذات الغیر عن التعالي عن الأنا، ویزول بذلك العائق الذي یعطي للغیر صورة عالم یستعصي بلوغه.

المحور الثالث: العلاقة مع الغیر

هل العلاقة مع الغیر هي علاقة تكامل أم تنافر
موقف كانط
یرى أن علاقة الصداقة هي أسمى وأنبل العلاقات الإنسانیة لأنها قائمة على الاحترام المتبادل. وأساسها الإرادة الأخلاقیة الخیرة. فالصداقة باعتبارها واجبا أخلاقیا، تشترط وجود المساواة وعلاقة التكافؤ، وهي أیضا نقطة تماس بین الحب والاحترام. وهذا ما یمنح الإنسان توازنه وعدم الإفراط سواء في الاحترام أو الحب.
موقف أفلاطـون
یعتبر أن علاقة الصداقة تنبثق من الحالة الوجودیة الوسط التي تطبع وجود الإنسان، وهي حالة وسط بین الكمال المطلق والنقص المطلق تدفع الإنسان إلى البحث الدائم عما یكمله في علاقته مع الآخرین... فالكمال الأقصى یجعل الإنسان في حالة اكتفاء ذاتي لا یحتاج فیها إلى الغیر، وفي حالة النقص المطلق تنعدم لدیه الرغبة في طلب الكمال والخیر. من هنا تقوم الصداقة كعلاقة محبة متبادلة یبحث فیها الأنا عما یكمله في الغیر، یتصف فیها كل طرف بقدر كاف من الخیر أو الكمال یدفعه إلى طلب كمال أسمى، وبقدر من النقص الذي لا یحول دون طلب الكمال.
***********

الشخص

الشخص والهوية

§                    ديكارت: هوية الشخص تقوم على القدرة على التفكير، والقدرة على التفكير في ذلك التفكير نفسه. واختلاف طريقة التفكير من شخص لآخر.
§                    جون لوك: هوية الشخص تقوم على إدراك الإحساس عبر الزمان والمكان، الأمر الذي يستدعي عمل الذاكرة.
§                    إيمانويل مونيي: هوية الشخص تكمن في الوحدة والكلية والشمولية التي تطبع  كينونته الداخلية، وهي الكينونة التي تختلف من هذا الشخص الى ذاك.

الشخص بين الضرورة والحرية

§                    مونيي: العلوم الإنسانية تركز على تفسير السلوكات الصادرة عن الشخصية  وهي السلوكات الخاضعة للحتمية والضرورة.
§                    سارتر: الإنسان مشروع قادر على موضعة نفسه في المستقبل، حيث تتعدد الاختيارات وتكون له الحرية في اختيار واحد منها، وتحمل مسؤولية اختياره.
§                    الحبابي: حرية الشخص تكن في قدرته على التحرر من الكائن الى الشخص وبالتالي الى الإنسان.

الشخص بوصفه قيمة

§                    كانط: يستمد الشخص قيمته من كونه ذاتا لعقل عملي أخلاقي، يقوم على مفهومي الواجب والفضيلة والكرامة الإنسانية.
§                    هيجل: يستمد الشخص قيمته من كونه يمتثل لروح شعبه من خلال قيامه بالواجبات و امتثاله لها.
§                    راولس: يستمد الشخص قيمته من كونه مواطنا له القدرة على التأثير و احترام الواجبات، وامتلاك حس العدالة والخير.

الغير

وجود الغير

§                    هيدجر: وجود الغير يفرض على الذات الانخراط فيه، وبذلك يصبح غير متين أو ضميرا مبنيا للمجهول أو لا أحد.
§                    ميرلوبونتي: من الصعب تحديد وجود الغير لأنه يجمع بين الوجود في ذاته (الجسد) والوجود من أجل ذاته (الوعي) وهذا الأخير هو ما يحول دون تحديد وجوده.
§                    سارتر: وجود الغير هو وجود شيء أو موضوع نظرا للعدم أو المسافة الفاصلة بيني وبينه، وهو ما يجعله يشيئني بدوره.

معرفة الغير

§                    شلر: معرفة الغير ممكنة إذا ما تناولناه باعتباره كلا لا يمكن الفصل بين مظاهره الخارجية وإحساساته الداخلية.
§                    جيل دولوز: يمكن معرفة الغير باعتباره بنية للحقل الإدراكي، وتفسير ما يصدر عنه من سلوكات انطلاقا من تلك البنية الممكنة.
§                    مالبرانش: من الصعب معرفة الغير انطلاقا من الاستدلال بالمماثلة، لأن الغير يشبهنا في جوانب،و يختلف في جوانب عنا في أخرى.

العلاقة مع الغير

§                    أوغست كونت: ينبغي أن تقوم العلاقة مع الغير على التعاطف والعيش من أجله، كرد للدين الذي قدمته لنا الإنسانية (الغيرية).
§                    ميرلوبونتي: من الصعب تحديد وجود الغير لأنه يجمع بين الوجود في ذاته (الجسد) والوجود من أجل ذاته (الوعي) وهذا الأخير هو ما يحول دون تحديد وجوده.
§                    جوليا كريستيفا: الغير هو الغريب ، لكن الغريب ليس هو ذلك الدخيل أو البعيد، بل إنه يوجد بيننا ويسكننا على نحو غريب.

النظریة والتجربة

المحور الأول: التجربة والتجریب

مما لا مناص فیه، تعتبر المعرفة العلمیة نموذجا للموضوعیة والدقة في أبحاثها ونتائجها، لكن ما سبب قوتها ومصداقیتها ؟ ثم كیف تبني موضوعها ؟ هل بالاعتماد على الوقائع الحسیة أم باللجوء إلى الفكر العقلاني؟
موقف كلود برنار
یرى أن المنهج التجریبي الذي ینطلق من التجربة مرورا بالمقارنة وانتهاء بالحكم یشكل جوهر المعرفة العلمیة لكونه هو المصدر الوحید للمعرفة الإنسانیة، ولاسیما في إدراك العلاقات بین الظواهر، وفي اعتماد الاستدلال التجریبي لاستنباط الأحكام والقوانین من الظواهر الطبیعیة بغیة التحكم فیها.
موقف دافید هیوم
لا یرى ضرورة ابتداء المعرفة بالتجربة وحدها بل علیها أن تقوم كلیا على التجربة. فما یمكن ملاحظته هي الظواهر التي لایمكن تفسیرها، إذ لا شيء یمكن معرفته قبلیا دونما أي تجربة.
موقف رونیه طوم
یعتقد أن الواقعة التجریبیة لا یمكن أن تكون علمیة إلا إذا استوفت شرطین أساسین: قابلیة إعادة صنعها في مجالات زمكانیة مختلفة.

المحور الثاني: العقلانية العلمیة

في الوقت الذي یشكل فیه العقل مصدرا لبناء النظریة، یؤسس الواقع موضوعها. لكن ما الأساس الذي تبنى علیه العقلانیة العلمیة ؟ هل العقل أم التجربة، أم هما معا ؟
موقف دیكارت
يرى ضرورة بناء المعرفة العلمیة اعتمادا على العقل وحده دونما الاستعانة بالتجارب والمعارف النابعة من الحواس، لأن له جمیع الخاصیات والمؤهلات التي تتیح له إنتاج الحقیقة. فالعقل یعتمد على المبادئ التي تساعده على بلوغ أهدافه ببداهة ووضوح تامتین.
موقف كانط
له موقف یجمع فیه بین قدرات العقل ومعطیات التجربة، بمعنى التكامل بین المعرفة العقلیة القبلیة والمعرفة التجریبیة البعدیة. فالتجربة لیست إلا مجرد وسیلة یتم بموجبها الحكم على المبادئ العقلیة القبلیة لان بلوغ الأحكام الكونیة رهین بالتفكیر العقلي المنقح بالتجربة.
موقف ألبیر إنشتاین
یذهب إلى أن للعقل الدور الایجابي في المعرفة العلمیة. فالعقل هو الذي یمنح النسق الریاضي – الذي أصبح في ظل الفیزیاء المعاصرة المحدد الرئیسي – بنیته. أما التجربة فینبغي أن تتناسب مع نتائج النظریة تناسبا تاما. لأن البناء الریاضي الخالص یمكننا من اكتشاف المفاهیم والقوانین والتي تمنحنا مفتاح فهم ظواهر الطبیعة التي یرى اینشتاین أنها تتحدث لغة الأرقام.

المحور الثالث: معايير علمية النظريات العلمية

من المصادر عنه أن المعرفة العلمیة حققت نجاحا باهرا في كل مجالات اشتغالها، والفضل في ذلك یرجع إلى زخم كبیر من الأسباب التي جعلتها تحظى بالدقة والموضوعیة والصرامة، لكن ألا یحق لنا أن نتساءل عن ما هي معاییر علمیة المعرفة العلمیة ؟ وما هي مقاییس صلاحیتها ؟
موقف برتراند راسل
أن المعرفة العلمیة التي یحصلها الإنسان على وجهین: معرفة بالحقائق الخاصة، ومعرفة بالحقائق العلمیة. فالحقائق الخاصة هي وقائع تتضمن استنتاجات تتباین درجة صحتها وصلاحیتها، في حین تتخذ الحقائق العلمیة صورة استنتاجات یقینیة.  إلا أن هذه الحقائق العلمیة قد تقصر على استیفاء شرط العلمیة حینما لا تفي بمعاییر منهجیة ثلاثة تتلخص فيما يلي:
§                    الشك في صحة الاستقراء.
§                    صعوبة استنتاج ما لا یقع في تجربتنا، قیاسا على ما یقع فیها.
§                    افتراض إمكانیة استنتاج ما لا یدخل في تجربتنا یكون ذا طابع مجرد لذلك یعطي قدرا من المعلومات أقل مما یبدو أنه معطیه لو استخدمت اللغة العادیة.
موقف بوانكاري
یذهب إلى أن معیار الموضوعیة في العلم فیتحدد في العلاقة الموجودة بین الظواهر، لهذا لم یعد ینظر إلیها بشكل معزول مما أتاح للباحثین إمكانیة تحقیق المسافة العلمیة الضروریة بینهم وبین الموضوع المدروس. والخاصیة التي تمیز النظریات العلمیة هي قابلیتها للتطور والمراجعة والتغییر، فالنظریة قد تصبح یوما ما متجاوزة لتفسح المجال لأخرى لتحل محلها. وتتخذ لاحقا النظریة حلة جدیدة.

مفهوم الحقیقة

المحور الأول: الحقیقة والرأي

نتساءل في هذا المحور عن ماهیة الحقیقة. هل هي معطى جاهز لا یحتاج إلى تحقیق أو تنقیب ، أم أنها بناء یتأسس على الانفتاح على استكشاف الواقع دون ما حاجة إلى أفكار قبلیة جاهزة ؟
موقف دیكارت
یرفض تأسیس الحقیقة على الحواس، لأن الحواس في نظره تخدعنا وتقدم لنا حقائق ظنیة ینبغي تلافیها. رغم أنه لا ینكر وجود العالم الحسي إلا أنه لا یعتبره منطلقا مضمونا لاكتشاف الحقیقة، لأنها في نظره من شأن العقل وحده وهو ما یقبله العقل تلقائیا دونما حاجة إلى برهان، فالحقیقة في الأصل لیست واقعا بل أفكارا في العقل ولما كانت الحدود بین الصادق والكاذب من الأفكار لیست بینة منذ البدایة فإن الطریق إلى الحقیقة في نظر دیكارت هو الشك المنهجي.
موقف كانط
یعتبر أن الحقیقة لیست لا ذاتیة ولا موضوعیة، ولیست معطاة أو جاهزة خارج الفكر والواقع ولا داخله بل إنها منتوج (بناء)، إنها حاصل تفاعل الفكر والواقع، یبنیهما العقل انطلاقا من معطیات التجربة الحسیة مادة المعرفة التي یضفي علیها الفهم الصور والأشكال. فالحقیقة تستلزم الـــمادة والصورة، الواقع والفكر معا. وعلى هذا المضي أضحت الحقیقة متعددة ونسبیة وغیر معطاة، بل لم تعد مطابقة الفكر للواقع بل انتظام معطیات الواقع في أطر أو مقولات العقل.
موقف هایدجر
یذهب إلى أن الحقیقة تتخذ طعما آخر ومفهوما جدیدا، إنها في نظره توجد في الوجود. ما دام هذا الوجود لا یتمكن من التعبیر عن ذاته والكشف عن حقیقته فإنه یحتاج إلى من یقوم بذلك، والإنسان هو الكائن الوحید الذي تتجلى فیه حقیقة الوجود، لا لأنه یفكر وإنما لأنه ینطق ویتكلم ویعبر. فالإنسان في نظره نور الحقیقة في ظلمات الكینونة، فالحقیقة لیست فكرا ینضاف إلى الوجود من الخارج كما ادعى دیكارت وكانط، وإنما هي توجد في صمیم الوجود نفسه. ولیس الإنسان سوى لسان حال الوجود أو كلمة الوجود المنطوقة، الأمر الذي یدل على أن الحقیقة هي فكر یطابق لغة معینة تعبر عن وجود معین أي كشف للكائن وحریته، أي استعداد الفكر للانفتاح على الكائن المنكشف له، واستقباله إذا ما تحقق التوافق و الانسجام.

المحور الثاني: معايير الحقيقة

إذا كان هدف الحقیقة هو معانقة الیقین في إنتاجها لمختلف أصناف المعارف وفي مختلف الوسائل للإقناع وبسط سلطاتها المعرفیة، فإننا نكون أمام تعدد معاییر الحقیقة. فما هو معیار الحقیقة ؟ هل هو معیار منطقي أم مادي ؟
موقف دیكارت
یرى أننا لا نخطئ إلا حینما نحكم على شيء لا تتوفر لدینا معرفة دقیقة عنه، ویعتبر أن الحقیقة بسیطة ومتجانسة خالصة وبالتالي متمیزة وواضحة بذاتها. فالحقیقي بدیهي بالنسبة للعقل ولا یحتاج إلى دلیل ومتمیز عما لیس حقیقیا، إنه قائم بذاته كالنور یعرف بذاته دونما حاجة إلى سند كما قال اسبینوزا، واللاحقیقي كالظلام یوجد خارج النور، فالفكرة الصحیحة (الكل أكبر من الجزء) صادقة دوما ونقیضها خاطئ دوما.
موقف باشلار
یعتبر أن الحقیقة العلمیة خطأ تم تصحیحه، وأن كل معرفة علمیة تحمل في ذاتها عوائق ابستمولوجیة تؤدي إلى الخطأ، وأول هذه العوائق الظن أو بادئ الرأي. وهذا یعني أن الحقیقة لا تولد دفعة واحدة، فكل الاجتهادات الإنسانیة الأولى عبارة عن خطأ، واكتشاف الخطأ وتجاوزه هو الخطوة الأولى نحو الحقیقة.
موقف نیتشه
یرى أن الحقائق مجرد أوهام نسینا أنها أوهام وذلك بسبب نسیان منشأ اللغة وعملها، لأن اللغة ما هي إلا استعارات وتشبیهات زینت بالصورة الشعریة والبلاغیة مما یجعل من الصعب التوصل إلى الحقائق بواسطة الكلمات أو إلى تعبیر مطابق للواقع وللكیانات الأصلیة للأشیاء بالإضافة إلى نسیان الرغبات والأهواء والغرائز التي تحول دون السلوك الإنساني وتدفعه إلى الكذب والأخطاء ، بدل الكشف والإظهار وبذلك یصبح الطریق إلى الحقیقة لیس هو العقل أو اللغة بل النسیان واللاشعور.

المحور الثالث: الحقیقة كقیمة

إن اعتقاد الإنسان في الحقائق وسعیه وراءها أمر ضروري لاستمرار الحیاة الاجتماعیة والأخلاقیة كما تبین في المحور السابق، ولعل هذا ما یطرح مسألة الحقیقة كقیمة. فمن أین تستمد الحقیقة قیمتها ؟ وما الذي یجعل الحقیقة مرغوبا فیها وغایة وهدفا للجهد الإنساني؟
موقف كیركجارد
یرى أن الحقیقة لها قیمة أخلاقیة. إنها فضیلة على الطریقة السقراطیة، قبل أن تكون مجرد معرفة، فهي لا تنكشف في العقل ولا تدرك في الاستدلال وإنما تولد في الحیاة وتعاش بالمعاناة. الحقیقة لیست شيء ثابت، إنها حوار واختلاف وهي ذاتیة لأنها لا تتكرر في كل واحد منا، إنها أخلاق وفضیلة ولیست قضیة معرفیة وغایة مذهبیة بعیدة عن شروط وجود الإنسان.
موقف ولیام جیمس
فلسفته كانت ثورة على المطلق والتأملي والمجرد. فقیمة الحقیقة هي قدرتها على تحقیق نتائج وتأثیرات في الواقع، و بالنسبة لجیمس قد تكون تلك نتائج مباشرة كما هو في الواقع المادي، وقد تكون غیر مباشرة بمعنى غیر فعالة بشكل مباشر كحدیث ولیام جیمس عن تأثیر الإیمان في الفرد بحیث ینحت داخله مجموعة من القیم التي باكتسابها تسود قیم من قبیل الخیر والفضیلة.
**********

النظرية والتجربة

التجربة والتجريب

§                    كلود بيرنار: التجريب هو ذلك الحوار بين الفكر النظري، والواقع المادي، ويقوم على خطوات المنهج التجريبي: الملاحظة/الفرضية/التجربة.
§                    رونيه طوم: التجربة تقوم على ضرورة توفر مختبر، ووسائل وأدوات، وإحداث خلل في المنظومة وتسجيل استجاباتها.

العقلانية العلمية

§                    كلود بيرنار: العقلانية العلمية هي عقلانية تجريبية محضة، تقوم على التجربة في منطلقها ومنتهاها من خلال الملاحظة والتجربة ضمن المنهج التجريبي.
§                    باشلار: العقلانية العلمية تقوم على الحوار الجدلي بين العقل والتجربة، وعدم الاستغناء عن أي طرف منهما.
§                    آينشتين: تقوم العقلانية العلمية على إبداع العقل بالدرجة الأولى، أما التجربة فإن دورها ينحصر في التطابق مع البنية العقلية المنتجة للنظرية.

معايير علمية النظريات العلمية

§                    تويليي: معيار علمية نظرية ما هو تعدد الاختبارات: تغير الفرضيات – الصدق الداخلي - عدم التناقض مع النظريات الأخرى.
§                    كارل بوبر: معيار علمية نظرية ما هو قابيلتها للتكذيب والتزييف التجريبي في جزء من مكوناتها، وهو ما يسمح بالتطور العلمي.
§                    آينشتين: معيار علمية نظرية ماهو قيامها على العقل وعلى المنهج الأكسيوماتيكي ذي القاعدة الرياضية.

الحقيقة

الحقيقة والرأي

§                    باشلار: الرأي يتعارض مع العلم لأنه لا يقوم على التفكير، لذلك ينبغي رفضه باعتباره عائقا أمام قيام المعرفة العلمية.
§                    باسكال: حقائق القلب (المبادئ) لها نفس قيمة حقائق العقل (الاستنباط)، بل وتعتبر أساسا لقيامها.
§                    ليبنتس: يمكن للرأي أن يرقى الى مستوى الحقيقة شريطة قيامه على أعلى درجات الاحتمال.

معايير الحقيقة

§                    اسبينوزا: معيار الحقيقة هو ذاتها ويتمثل في عدم الشك فيها وقيامها على اليقين وعلى الوضوح والبداهة والاكتمال.
§                    ديكارت: الحقيقة تقوم على معيارين أساسين هما الحدس العقلي البسيط والاستنباط باعتباره تلك الحركة المتصلة للاستنتاج.
§                    ليبنتس: معيار الحقيقة هو قيامها على البرهنة السليمة سواء من حيث الشكل أو المضمون، المادة أو الصورة.

الحقيقة بوصفها قيمة

§                    إريك فايل: الحقيقة تستمد قيمتها من كونها مضادة للعنف القائم على الخطاب المتفكك المعبر عن المشاعر الشخصية.
§                    هيدجر: الحقيقة لا قيمة لها لكونها نوعا من التيه الذي يفتح الباب أمام الغلط.
§                    نيتشه: قيمة الحقيقة تتمثل في كونها وهما يساهم في الحفاظ على بقاء الإنسان ويشكل أساس كل ماهو جميل وخير.



مفهوم الدولة

المحور الأول: مشروعیة الدولة وغاياتها

من أین تستمد الدولة مشروعیتها، من الحق أم من القوة ؟ وكیف یكون وجود دولة ما مشروعا ؟
موقف ماكس فیبر
یعتبر أن السیاسة هي مجال تدبیر الشأن العام وتسییره. وما الدولة إلا تعبیر عن علاقات الهیمنة القائمة في المجتمع، وهذه الهیمنة تقوم على المشروعیة التي تتحدد في ثلاث أسس تشكل أساس الأشكال المختلفة للدولة، وهي سلطة الأمس الأزلي المتجذرة من سلطة العادات والتقالید، ثم السلطة القائمة على المزایا الشخصیة الفائقة لشخص ما، وأخیرا السلطة التي تفرض نفسها بواسطة الشرعیة بفضل الاعتقاد في صلاحیة نظام مشروع وكفاءة ایجابیة قائمة على قواعد حكم عقلانیة.
موقف هوبز
یرى أن الدولة تنشأ ضمن تعاقد إرادي ومیثاق حر بین سائر البشر، حتى ینتقلوا من حالة الطبیعة (حرب الكل ضد الكل) إلى حالة المدنیة. وبذلك ستكون غایة الدولة هي تحقیق الأمن والسلم في المجتمع.
موقف سبینوزا
یرى أن الغایة من تأسیس الدولة هي تحقیق الحریة للأفراد والاعتراف بهم كذوات مسؤولة وعاقلة وقادرة على التفكیر، وبالتالي تمكین كل مواطن من الحفاظ على حقه الطبیعي في الوجود باعتباره وجودا حرا.
موقف هیجل
یرى أن مهمة الدولة هي أبعد من ذلك وأعمق وأسمى. فالفرد في رأیه یخضع للدولة وینصاع لقوانینها لأنها تجسد فعلیا الإرادة العقلانیة العامة، والوعي الجماعي القائم على الأخلاق الكونیة، لأنها تدفع بالمرء للتخلص من أنانیته بحیث ینخرط ضمن الحیاة الأخلاقیة. فالدولة في نظره، هي أصدق تعبیر عن سمو الفرد ورقیه إلى الكونیة. فهي بذلك تشكل روح العالم.

المحور الثاني: طبيعة السلطة السیاسیة

هل یمكن حصر السلطة السیاسیة في أجهزة الدولة أم أن السلطة هي قدرة مشتتة في كل المجتمع ؟ هل هي متعالیة عن المجال الذي تمارس فیه أم هي محایثة له ؟
موقف مونتسكیو
عالج مونتسكیو في كتابه "روح القوانین" طبیعة السلط في الدولة، إذ یصادر على ضرورة الفصل بین السلط داخل الدولة، حیث ینبغي في نظره استقلال السلطة التشریعیة عن التنفیذیة عن القضائیة والفصل بینهم. والهدف من هذا الفصل والتقسیم هو ضمان الحریة في كنف الدولة.
موقف میشیل فوكو
یحصر السلطة في مجموعة من المؤسسات والأجهزة ویبلور تصورا أصیلا للسلطة، إذ یرى أنها لیست متعالیة عن المجال الذي تمارس فیه، بل هي محایثة له، إنها الاسم الذي یطلق على وضعیة استراتیجیة معقدة في مجتمع معین تجعل مفعول السلطة یمتد كعلاقات قوة في منحى من مناحي الجسم الاجتماعي.
موقف دو وكفیل
یرى أن الصفات الجدیدة التي أصبحت تتحلى بها الدولة، في ممارستها السیاسیة، هي تلبیة متع الأفراد ورغباتهم وتحقیق حاجیاتهم الیومیة، لكن هذه الامتیازات یرى أنها كانت على حساب إقصائهم من الحیاة السیاسیة، الأمر الذي أدى إلى تقلیص الحریات وتدني الوعي السیاسي لدیهم، وبالتالي تحول الأفراد إلى قطیع تابع وفاقد للإرادة.

المحور الثالث: الدولة بين الحق والعنف

هل تمارس الدولة سلطتها بالقوة أم بالقانون ؟ بالحق أم بالعنف ؟
موقف مكیافیللي
یركز على ضرورة استعمال جمیع الوسائل ومن ضمنها العنف لیحافظ الأمیر على السلطة السیاسیة وليمارس إخضاع الرعیة بالرغم من أنه لا یقول بأولیة العنف، لكن یكفي ذلك لنستنتج أن العنف مكون من مكونات الدولة أي أساس من أسسها الهامة.
موقف ماكس فیبر
یرى أن ما یمیز الدولة بالأساس هو احتكارها للعنف الشرعي، أي أنه لا توجد أیة جهة تمتلك شرعیة استعمال العنف ما عدا الدولة.
موقف ماركس
یعتبر الدولة جهازا طبقیا یخدم مصالح الطبقات السائدة سیاسیا لأنها سائدة اقتصادیا. وهكذا یكون العنف وسیلة مركزیة معبرا عنها بالأجهزة القمعیة إلى جانب الأجهزة الإیدیولوجیة.

مفهوم الحق و العدالة

المحور الأول: الحق بين الطبيعي والوضعي

هل للعدالة ارتباط بالحق الطبیعي أم بالحق الوضعي ؟ هل یمكن تحقیق العدالة خارج القوانین أم تشترط الارتباط بها ؟
موقف طوماس هوبس
یؤكد أن العدالة ترتبط بالحق الوضعي وتتعارض مع الحق الطبیعي، لأن الحق الطبیعي یحتكم إلى القوة ویخضع لتوجیهات الغریزة والأهواء، مما یجعله حقا یقوم على الحریة المطلقة التي تبیح للفرد القیام بكل ما من شأنه أن یحفظ حیاته (العدوان ،العنف..)، أما الحق الوضعي فهو حق یحتكم إلى القوانین والتشریعات المتعاقد علیها، ویخضع لتوجیهات العقل مما یجعله یحد من الحریة المطلقة لكنه یضمن حقوق الأفراد ویحقق العدل والمساواة، وبذلك یخلص هوبس إلى أن العدالة ترتبط بالحق الوضعي أي بالحریة المقننة بالقوانین والتشریعات و تتعارض مع الحریة المطلقة التي تستند إلى القوة والغریزة.
موقف جان جاك روسو
یمیز بین حالة الطبیعة التي یخضع فیها الأفراد لأهوائهم ورغباتهم بحیث تطغى علیهم الأنانیة والذاتیة ویحتكمون إلى قوتهم، و بین حالة التمدن التي یمتثل فیها الأفراد لتوجیهات العقل ویحتكمون إلى القوانین والتشریعات في إطار عقد اجتماعي یساهم الفرد في تأسیسه ویلتزم باحترامه وطاعته ویمارس حریته في ظله. إذن فالعقد الاجتماعي یجسد الإرادة العامة التي تعلو على كل الإرادات الفردیة، فالامتثال والخضوع للعقد الاجتماعي هو خضوع للإرادة الجماعیة التي تحقق العدل و المساواة و تضمن الحقوق الطبیعیة للأفراد وبذلك فالامتثال للقوانین التي شرعها العقد لا تتعارض مع حریة الفرد مادام العقد الاجتماعي هو تجسید لإرادة الأفراد.

المحور الثاني: العدالة كأساس للحق

ماهي طبیعة العلاقة بین العدالة و الحق ؟ أیهما أساس الآخر؟ هل تقوم العدالة على أساس الحق والفضیلة ؟
موقف اسبینوزا
یعتبر أن هناك مبدأ تقوم علیه الدولة الدیموقراطیة وهو تحقیق الأمن والسلام للأفراد من خلال الاحتكام للقوانین التي وضعها وشرعها العقل وتم التعاقد علیها، وبذلك یتم تجاوز قوانین الطبیعة التي تحتكم إلى الشهوة والغریزة وتستند إلى القوة الفردیة مما یؤدي إلى انتشار الفوضى والظلم والعدوان والكراهیة والصراع ، فالقانون المدني الذي تجسده الدولة كسلطة علیا هو قانون من وضع العقل و تشریعه، لذلك یجب على الأفراد الامتثال له والخضوع له حفاظا على حریتهم وحقوقهم لأنه یجسد العدالة و یسمح بأن یأخذ كل ذي حق حقه بذلك تتحقق المساواة والإنصاف من خلال ضمان حقوق الجمیع وعدم التمییز بینهم سواء على اساس طبقي أو عرقي أو جنسي أو غیرهم.
موقف فریدیریك فون هایك
عرف السلوك العادل بأنه سلوك یكفل الحق في منظومة قانونیة وشرعیة في إطار مجتمع تسوده الحریة، حیث لا تعكس العدالة دلالتها إلا في نظام شرعي. فالقانون الذي یستند على قواعد العدالة له مقام استثنائا لا یجعل الناس یرغبون في أن یحمل إسما ممیزا فحسب بل یدفعهم أیضا إلى تمییزه بوضوح عن تشریعات أخرى تسمى قوانین، ولعل مبرر ذلك یكمن في أنه لو شئنا الحفاظ على مجتمع تسوده الحریة فإن ذلك القسم من الحقوق الذي یقوم على القواعد العادلة هو وحده الكفیل بأن یكون ملزما للمواطنین ومفروضا على الجمیع.

المحور الثالث: العدالة بين الإنصاف والمساواة

إذا كانت العدالة هي تحقیق المساواة فهل یمكن تحقیقه لجمیع الأفراد داخل المجتمع؟
موقف أفلاطون
یرى أن العدالة تتحدد باعتبارها فضیلة تنضاف إلى فضائل ثلاث هي: الاعتدال والشجاعة والحكمة ، فالعدالة حسب هذا الأخیر هي أن یؤدي كل فرد الوظیفة المناسبة لقواه العقلیة والجسدیة والنفسیة، فهي (أي العدالة) تتحقق على مستوى النفوس حیث یحدث انسجام بین القوى الشهوانیة والعقلیة لدى الإنسان فالضامن الوحید لتحقیق الفضیلة والعدالة هو الدولة التي تملك سلطة القانون والحكمة وتبعا لذلك فإن الوظائف التي تستدعي قدرات عقلیة وانسجام الغرائز مع العقل ستكون من نصیب الحكماء والفلاسفة لأنهم هم القادرون على تحقیق الحق والعدالة.
موقف دافید هیوم
(من رواد المدرسة التجریبیة) العدالة بالنسبة إلیه تفقد معناها عندما تكون غیر ذات نفع، ویدعو إلى التصرف أكثر إنصافا من أجل مصلحة ما، حیث ما وجدت مصلحة وجدت العدالة مادام الإنسان یمیل بطبیعتها إلى تحقیقها. وهناك من یذهب إلى السخریة من العدالة لاستحالة تحقیقها، أما الإنصاف فیتحقق بفعل العرف الذي یعتبر بمثابة الأساس الروحي لسلطته وسببا في القبول به، هذا ما عبر عنه أحد المفكرین یدعى باسكال.


مفهوم الواجب

المحور الأول: الواجب والإكراه

الحدیث عن مفهوم الواجب یجرنا للتساؤل عما إذا كان إلزاما أم التزاما ؟ بمعنى آخر هل ما نقدمه من واجب هو صادر عن رضى وطیب خاطر ؟ أم لأننا أرغمنا علیه ؟
موقف كانط
یذهب كانط إلى اعتبار الواجب هو القیام بالفعل احتراما للقانون الذاتي الأخلاقي القائم على الخیر الأسمى، والمؤسس على العقل والإرادة. وعلى هذا النحو یكون المرجع الأساسي الذي یجب أن ینطلق منه الجمیع هو العقل لأنه كوني بالنسبة للجمیع. والحكم الأخلاقي إذ یصدر عن الإرادة الخیرة، التي مصدرها العقل هي الأخرى، فهو أیضا یمكن توصیفه بالكوني. لذلك وضع قوانین تتسع رقعتها لتشمل الإنسان كمفهوم، أي الإنسان في صیغته المطلقة، مركزا على العقل والإرادة لطابعهما الكوني والمشترك. فالعقل العملي إلى جانب الإرادة هما المشرعین لمفهوم الواجب، الذي هو إكراه، من حیث هو فعل خاضع للعقل، وللحریة، لأن مصدره الإرادة.
موقف غویو
یرى غویو أن الفعل الأخلاقي لا یجب أن یصدر عن إلزام ولا عن خوف من أي جزاء أو عقاب. إنما یكون هو فعلا تأسیسیا لمسار الحیاة الذي لا ینتهي، ولغایات حددتها الطبیعة الإنسانیة بوصفها فاعلیة مطلقة نحو الحیاة. لكن الواجب الأخلاقي من وجهة النظر الطبیعیة هاته التي لیس فیها شيء غیبي، یرتد إلى القانون الطبیعي الشامل ، فمصدره هو الشعور الفیاض "بأننا عشنا و أننا أدینا مهمتنا ... وسوف تستمر الحیاة بعدنا، من دوننا، ولكن لعل لنا بعض الفضل في هذا الاستمرار". والمنحى نفسه یتخذه نیتشه حین یؤسس الأخلاق على مبدأ الحیاة بوصفها اندفاع خلاق محض. إذ الفعل الأخلاقي عند نیتشه ما یخدم الحیاة ویزید من قوتها ولیس ما یضعف الحیاة ویزید من محدودیتها. هكذا هو الخیر والشر عند نیتشه.

المحور الثاني: الوعي الأخلاقي

یعتبر مفهوم الوعي الأخلاقي مفهوما مركزیا في الفلسفات الأخلاقیة. فما هو الأساس الذي یقوم علیه هذا الوعي ؟
موقف روسو
یرى روسو أن الوعي الأخلاقي إحساس داخلي موطنه وجداننا فنحن نحسه قبل معرفته، وهو الذي یساعدنا على التمییز بین الخیر والشر، والحسن والقبیح، وهي إحساسات طبیعیة وفطریة یسعى الإنسان من خلالها إلى تفادي ما یلحق الأذى به وبالآخرین، ویمیل إلى ما یعود علیه وعلى الآخرین بالنفع. الأمر الذي یقوي لدیه الوعي الأخلاقي فیجعله متمیزا عن باقي الكائنات الحیوانیة الأخرى.
موقف هیجل
یعتبر الوعي الأخلاقي هو الربط بین الواجب والمبادئ الأخلاقیة. وفي هذا الإطار یمیز هیجل بین الواجب بمعناه القانوني والواجب بمعناه الأخلاقي، فإذا كان النوع الأول من الواجب یعتبر نموذجیا، فإن النوع الثاني یفتقر إلى الطابع النموذجي، وذلك لقیامه على الإرادة الذاتیة. لكن سرعان ما سیعكس هیجل هذا الحكم، عندما سیعتبر الواجب القانوني واجبا یفتقر إلى الاستعداد الفكري، على عكس الواجب الأخلاقي الذي یستدعي ذلك الاستعداد، ویقتضي أن یكون مطابقا للحق في ذاته. وعلى هذا النحو یصبح للواجب الأخلاقي قیمة باعتباره وعیا ذاتیا ولیس إلزاما خارجیا.

المحور الثالث: الواجب والمجتمع

ماهي الصلة التي یمكن إقامتها بین الواجب والمجتمع ؟ وكیف تتحدد واجبات الفرد تجاه المجتمع والآخرین ؟
موقف دوركهایم
یرى بأن المجتمع یشكل سلطة معنویة تتحكم في وجدان الأفراد، ویكون نظرتهم لمختلف أنماط السلوك داخله، ومن ثمة فالمجتمع یمارس نوعا من القهر والجبر على الأفراد إذ هو الذي یرسم لهم معالم الامتثال للواجب الأخلاقي والنظم الأخلاقیة عموما، ولما كانت الحال كذلك لأن الأفراد یُسلب منهم الوعي بالفعل الأخلاقي، لأنه لم یكن نابعا من إرادة حرة وواعیة وإنما عن ضمیر ووعي جمعیین هما المتحكمان في سلوكیات الأفراد. وبالتالي فالمجتمع سلطة إلزامیة والتي یجب أن نخضع لها لأنها تحكمنا وتربطنا بغایات تتجاوزنا. ومن ثمة فالمجتمع یتعالى على الإرادات الفردیة، ویفرض السلوكیات التي یجب أن یكون بما فیها السلوكیات الأخلاقیة لأن المجتمع قوة أخلاقیة كبیرة. فیحقق الأفراد غایة المجتمع لا غایة ذواتهم والإنصات لصوته الآمر لأن تلك المشاعر التي تملي علینا سلوكنا بلهجة آمرة صارمة و ضمیرنا الأخلاقي لم ینتج إلا عن المجتمع ولا یعبر إلا عنه.
موقف ماكس فیبر
ینصرف في حدیثه عن الواجب الأخلاقي والأخلاق عموما إلى القول بأن الأخلاق في مجملها تنقسم إلى نمطین اثنین: نمط أول موسوم بأخلاق الاقتناع ذات المظهر المثالي والمتعالي التي یكون فیها الفرد غیر متحمل لأیة مسؤولیة، وإنما هي مركونة إلى المؤثرات والعوامل الخارجیة التي لا یتدخل فیها الفرد، وإنما تطرح فیه بتأثیر الأبعاد الدینیة، بما هي صوت متعال یصدر أوامره، حیث إن أخلاقیة الاقتناع لن ترجع المسؤولیة إلى الفاعل، بل إلى العالم المحیط وإلى حماقة البشر وإلى مشیئة الله الذي خلق الناس على هذه الصورة. ونمط ثان من الأخلاق هو ما أطلق علیه أخلاق المسؤولیة، التي تصدر من الذات الفردیة و تتأسس على الوعي الفردي الحر، إذ "نحن مسئولون عن النتائج التي تمكن توقعها لأفعالنا"، ولا ترجع المسؤولیة إلى بعد خارجي قسري، لا علاقة لهذه الأخلاق بالقدر أو بالحظ.

مفهوم الحریة

المحور الأول: الحریة والحتمية

إذا كانت الحریة تتحدد بقدرة الفرد على الفعل والاختیار، فهل ستكون هذه الحریة مطلقة أم نسبیة ؟ وهل ثمة حتمیات وضرورات تحد من تحقیق الإرادة الحرة لدى الإنسان ؟ هل الحریة تتعارض مع الحثمیة أم أن الوعي بالحثمیة هو أساس الحریة ؟
موقف إسبینوزا
یرى سبینوزا أن الحریة، أو بالأحرى الشعور بالحریة مجرد خطأ ناشئ مما في غیر المطابقة من نقص وغموض، فالناس یعتقدون أنهم أحرار لأنهم یجهلون العلل التي تدفعهم إلى أفعالهم، كما یظن الطفل الخائف انه حر في أن یهرب، ویظن السكران انه یصدر عن حریة تامة، فإذا ما تاب إلى رشده عرف خطأه. فلو كان الحجر یفكر، لاعتقد بدوره أنه إنما یسقط إلى الأرض بإرادة حرة. وبذلك تكون الحریة الإنسانیة خاضعة لمنطق الأسباب والمسببات الذي لیس سوى منطق الحتمیة.
موقف كانط
كانط ینطلق في معرض بحثه لمفهوم الحریة، من فكرة تبدو له من المسلمات والبدیهیات، مفادها أن الحریة خاصیة الموجودات العاقلة بالإجمال، لأن هذه الموجودات لا تعمل إلا مع فكرة الحریة. غیر أن أي محاولة من العقل لتفسیر إمكان الحریة تبوء بالفشل، على اعتبار أنها معارضة لطبیعة العقل من حیث أن علمنا محصور في نطاق العالم المحسوس وأن الشعور الباطن لا یدرك سوى ظواهر معینة بسوابقها، وهذه المحاولة معارضة لطبیعة الحریة نفسها من حیث أن تفسیرها یعني ردها إلى شروط وهي علیة غیر مشروطة. كما ینص كانط على التعامل مع الإنسان باعتباره غایة، لا باعتباره وسیلة، ذلك لأن ما یعتبر غایة في ذاته، هو كل ما یستمد قیمته من ذاته، ویستمتع بالتالي بالاستقلال الذاتي الذي یعني استقلال الإرادة. یقتضي هذا المبدأ بان یختار كل فرد بحریة الأهداف والغایات التي یرید تحقیقها بعیدا عن قانون التسلسل العلي الذي یتحكم في الظواهر الطبیعیة.

المحور الثاني: حریة الإرادة

هل أفعالنا نتاج لارادتنا أم أننا ملزمون بها ؟
موقف سارتر
لا یختلف اثنان في اعتبار سارتر فیلسوف الحریة بامتیاز، وكیف لا وهو الذي نصب نفسه عدوا لذوذا للجبریین. لقد بذل هذا الفیلسوف قصارى جهده للهبوط بالإنسان إلى المستوى البیولوجي المحض. فالحریة هي نسیج الوجود الإنساني، كما أنها الشرط الأول للعقل "إن الإنسان حر، قدر الإنسان أن یكون حرا، محكوم على الإنسان لأنه لم یخلق نفسه وهو مع ذلك حر لأنه متى ألقي به في العالم، فإنه یكون مسؤولا عن كل ما یفعله". هكذا یتحكم الإنسان – حسب سارتر – في ذاته وهویته وحیاته، في ضوء ما یختاره لنفسه بإرادته ووفقا لإمكاناته.
موقف نیتشه
رفض الأحكام الأخلاقیة النابعة من التعالیم المسیحیة، معتبرا أنها سیئة وأنها أكدت، تأكیدا زائفا على الحب والشفقة والتعاطف، وأطاحت ،في المقابل بالمثل والقیم الیونانیة القدیمة التي اعتبرها أكثر صدقا وأكثر تناسبا مع الإنسان الأرقى. فهذه الأخلاق مفسدة تماما للإنسان الحدیث الذي یجب أن یكون "روحا حرة" ویثبت وجوده ویعتمد على نفسه ویستجیب لإرادته. فقد اعتبر بوجه عام أن الحقیقة القصوى للعالم هي الإرادة، ومثله الأعلى الأخلاقي والاجتماعي هو "الرجل الأوربي" الجید، الموهوب بروح حرة، والذي یتحرى الحقیقة بلا ریب، ویكشف عن الخرافات والترهات.

المحور الثالث: الحریة والقانون

إذا اعتبرنا أن الحریة مقترنة بالإرادة الحرة وبقدرة الفرد على التغلب على الاكراهات والحتمیات، فكیف یمكن الحد من الحریة المطلقة ؟ وما دور القانون في توفیر الحریة وترشید استعمالها؟
موقف توماس هوبز
لا یعول هوبز كثیرا على القانون، فهو یعتقد أن كینونة الحریة في الإنسان هي الدافع الأساسي لإعمال حریته ولیس القانون، مضیفا أنه إذا لم یكن الإنسان حرا بحق وحقیقة، فلیس هناك موضع للإدعاء بأن هذا الإنسان یمكنه أن یحظى بالحریة فقط عندما یكون تحت نظام قانوني معین... إذ تبقى الحریة عند هوبز نصا یمتلك معنى واسعا، ولكنه مشروط بعدم وجود موانع لإحراز ما یرغب فیه الإنسان، فالإرادة أو الرغبة لوحدها لا تكفي لإطلاق معنى الحریة. وهوبز كغیره من رواد الفكر السیاسي الغربي، یؤمن بأن حریة الإنسان تنتهي عند حریة الآخرین، فقد رفض الحریة الزائدة غیر المقیدة، إذ أكد بأن الحریة لیست الحریة الحقیقیة لأنها خارجة عن السیطرة، بالأحرى سیكون الإنسان مستعبدا من خلال سیادة حالة من الخوف المطرد المستمر. وهكذا ستتعرض المصالح الشخصیة الخاصة وحتى الحیاة نفسها للرعب والذعر من قبل الآخرین أثناء إعمالهم لحریاتهم. فالحریة المطلقة تقود إلى فقدان مطلق للحریة الحقیقیة.
موقف أردنت
ربطت أردنت الحریة بالحیاة الیومیة وبالمجال السیاسي العمومي، ذلك أن اعتبار الحریة حقا یشترك فیه جمیع الناس، یفترض توفر نظام سیاسي وقوانین ینظمان هذه الحریة، ویحددان مجال تعایش الحریات. أما الحدیث عن حریة داخلیة (ذاتیة)، فهو حدیث ملتبس وغیر واضح. إن الحریة، حسب أرندت، مجالها الحقیقي والوحید هو المجال السیاسي، لما یوفره من إمكانات الفعل والكلام، والحریة بطبعها لا تمارس بشكل فعلي وملموس، إلا عندما یحتك الفرد بالآخرین، إن على مستوى التنقل أو التعبیر أو غیرها، فتلك هي إذن الحریة الحقیقیة والفعلیة في اعتقادها.


المزيد حول الموضوع

الربح من الفايسبوك والانستغرام باختصاار الروابط