العايش بين الأديان : كيف ؟ ولماذا ؟ :
قلنا إن التعايش هو ضربٌ من التعاون الذي يقوم على أساس الثقة والاحترام المتبادلين، والذي يهدف إلى غايات يتفق عليها الطرفان، أو الأطراف التي ترغب في التعايش، وتمارسه عن اقتناع وطواعية، وباختيار كامل. فكيف يتم هذا التعايش ؟ ما أساليبه وطرقه ووسائله ؟ ما قنواته ؟ ثم، ما أهدافه وغاياته ؟.
يتعيّن علينا بادىء الأمر، أن نؤكد تأكيداً جازماً، أن التعايش الذي نفهمه، ونؤمن به، والذي نرحب بالتعاون من أجل إقراره، لا يعنى بأية حال من الأحوال، تمييع المواقف، وخلط الأوراق، ومزج العقائد وتذويبها وصبّها في قالب واحد، حتى وإن زعموا أنه قالبٌ إنسانيٌّ في الصميم. ذلك أن أصحاب العقائد السليمة لا يقبلون هذا الخلط المريب الغامض، ويرفضون ـ رفضاً بصيراً واعياً ـ أن يفرطوا في خصوصياتهم ومقوّماتهم وقيمهم، خشية أن يوصموا بالتعصب، أو حتى يظفروا بصفة التحرّر من العقد المركبة. إن التعايش الذي يُسلب المسلم هويتَه، ويجعل توازنَه يختلُّ، وكيانَه يهتزّ، هو ليس بتعايش، وإنما هو غشّ، واحتيال، وتضليل.
أما إذا كان التعايش، هو أن يحتفظ كلُّ طرف بدينه كاملاً غير منقوص، ويتشبث بمكوّنات هويته وافرةً غير مثلوبة، كان هو عين القصد، وجوهر التعامل الذي نسعى إلى إقامته مع غير المسلمين.
إن التعايش بين المسلمين وبين غيرهم من أهل الأديان، ينبغي أن ينطلق من الثقة والاحترام المتبادلين، ومن الرغبة في التعاون لخير الإنسانية، في المجالات ذات الاهتمام المشترك، وفيما يمسّ حياة الإنسان من قريب، وليس فيما لا نفع فيه، ولا طائل تحته.
ولعلَّ الإطار الذي رسمه الشيخ محمد الغزالي يرحمه اللَّه للتعايش، يمثّل في رأينا، الصيغة المثلى لتحديد صورة هذا التعايش بين المسلم وبين غير المسلم، فقد وضع، ثلاثة مبادىء للتعايش والحوار، هي :
أولاً : الاتفاق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة اللَّّه وجلاله، فأنا وأنت متفقان على أن الله قد أحاط بكل شيء علماً، وأنه لا يُعجزه شيءٌ في السماوات ولا في الأرض، وأن رحمته وسعت كلَّ شيء، وأنه ليس متصفاً بالنقائص والعيوب التي تشيع بين البشر ...الخ.
ثانياً : الاتفاق على أن اللَّه يختار رسله من أهل الصدق والأمانة والكياسة.
ثالثاً : ما وجدناه متوافقاً في تراثنا نرُدُّ إليه ما اختُلِفَ فيه، وبذلك يمكن وضع قاعدةٍ مشتركةٍ بين الأديان (42).
من هذه القاعدة يمكن أن ننطلق، على سبيل المثال لا الحصر، في اتجاه تعميق البحث العلمي في إطار جهود مشتركة للوصول إلى نتائج تدعم أسس التعايش الذي هو في البدء والختام، التعاونُ بين المؤمنين في الأرض على ما فيه الخيرُ والصلاح للإنسانية جمعاء. والبحثُ العلميُّ النزيهُ عن اتصال الأديان وآثار ذلك الاتصال، خطوةٌ صالحةٌ، في سبيل السلام العالمي، والأخوة الإنسانية، التي سَمَتْ إليها الروح الدينية العالية، وحلمت بها الفلسفة منذ شروق شمس الحياة الفكرية، ثم لا تزال تتطلّع إليها العناصر الكريمة في الحياة العاملة، وهو بحثُ يوسّع أفق المتدينين، ويدفعهم من التديّن إلى أطهر معانيه، على حين هو في الوقت نفسه، واجبٌ علميٌّ لخدمة الحقيقة، يتولاه الباحثون في تاريخ الأديان، ومقارنتها(43).
والاشتراك في جهود علمية ثقافية في هذا المجال، يعود بالفائدة على المؤمنين جميعاً، لأن هذه الجهود تصبُّ في اتجاه تعميق التفاهم بين أهل الأديان، وإشاعة القيم الإنسانية في أوساطهم، وإقامة جسور للتقارب الإنساني الذي يعلو على التقارب الفكري والثقافي.
والتعاون بين الأديان في المحافظة على سلامة البيئة، وفي محاربة الأمراض الخطيرة، وفي القضاء على التفرقة العنصرية، وفي رفع الظلم عن الشعوب والطوائف والفئات التي تتعرض للاضطهاد، هو مجالٌ واسعٌ للتعايش بين المؤمنين.
كذلك ينبغي أن يشمل التعايش بين الأديان العملَ المشترك لمحاربة الإلحاد، والانحلال الخلقي، وتفكك الأسرة، وانحراف الأطفال، ومقاومة كل الآفات والأوبئة التي تتهدّد سلامة كيان الفرد والجماعة، وتضر بالحياة الإنسانية.
ويجب أن يتسع مفهومُ التعايش بين الأديان للقضاء على أسباب التوتر واضطراب حبل الأمن والسلام وعدم الاستقرار في أنحاء عديدة من العالم، مثل فلسطين، والبوسنة والهرسك، وإقليم كوسوفو، وكشمير، والفليبين، وفي مناطق كثيرة في أفريقيا وآسيا، فيكون العمل في هذا النطاق تعايشاً نافعاً ومُجدياً وذا تأثيرٍ في حياة الناس وواقعهم المعيش. وبذلك يصير التعايش بين الأديان وسيلةً فعالة لدعم جهود المجتمع من أجل السلام وإقامة العلاقات السليمة بين الشعوب والأمم في ظلّ سيادة القانون الدولي، واحترام حقوق الإنسان، وإقرار الحريات الأساس المنصوص عليها في المواثيق والعهود والأوفاق الدولية.
وينبغي أن يتجه التعايش بين الأديان نحو إنصاف المظلومين والمقهورين في الأرض جميعاً من دون استثناء، وإلزام كل من يمارس الظلم والقهر والإرهاب على مستوى الدولة أو على مستوى الأفراد والجماعات، باحترام أحكام القانون الدولي، والانصياع إلى تعاليم الأديان السماوية. ولا يجوز أن يُخرج التعايش بين الأديان من نطاق اهتماماته، محاربةَ الظلم والعدوان والاستيلاء على أراضي الغير بالقوّة، تحت أية دعوى من الدعاوي، أو مهادنة الجهة التي ترتكب هذه الجرائم بحجة عدم الخوض في المسائل السياسية، فمن أهداف التعايش بين الأديان، العملُ على إقرار مبادئ الحق والعدل واحترام كرامة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى. فهذه المبادئ والتعاليم هي القاسم المشترك بين جميع الأديان.
ويجب أن يكون التعايش بين الأديان دعماً للجهود الخيّرة التي يبذلها المجتمع الدولي من أجل التعايش الحضاري والثقافي بين الأمم والشعوب، وأن يكون قوّة دفع لهذه الجهود نحو تطويرها، وإغنائها، وتعميمها. وحتى يكون التعايش بين الأديان في خدمة السلام العادل، يجب أن تتحرّر الأطراف المشاركة فيه، من كل القيود والضغوط والارتباطات التي تتعارض ومبادئ هذا التعايش وأهدافه.
إن هناك تأثيراً واضحاً لليهودية الصهيونية على بعض الأطراف المسيحية، تتجلى مظاهرهُ في مواقف عديدة تصبُّ جميعُها في الاتجاه المناهض للحقائق التاريخية. وعلى سبيل المثال، ظهرت في بريطانيا أولاً، ثم في الولايات المتحدة الأمريكية حركات دينية مسيحية إنجيلية، أهمها وأقـــواها هي ما يُعرف بالحــركــة التدبيرية ـ DISPENSATIONALISM ـ وهذه الحركة تؤمن بأن في الكتاب المقدس، وخاصة في سفر حزقيال، وسفر الرؤيا، وسفر يوحنا، نبوءات واضحة حول الوصايا التي يحدّد اللَّه فيها كيفية تدبير شؤون الكون ونهايته : عودة اليهود إلى فلسطين، قيام إسرائيل، وقوع محرقة "هَرْمَجَدُّون" النووية، انتشار الخراب والدمار ومقتل الملايين، وظهور المسيح المُخَلِّص، مبادرة من بقى من اليهود إلى الإيمان بالمسيح، انتشار السلام في مملكة المسيح مدة ألف عام. وهي حركة تضم أكثر من أربعين مليون أمريكي، وكان من بين أعضائها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، وتسيطر هذه الحركة على قطاع واسع من المنابر الإعلامية الأمريكية، وبصور ة خاصة المتلفزة، ويشارك قادتُها كبارَ المسؤولين الأمريكيين في البيت الأبيض، والبنتاغون، ووزارة الخارجية، في صناعة قراراتهم السياسية والعسكرية من الصراع العربي ـ الصهيوني. وأتباع هذه الحركة يؤمنون بأن اليهود هم شعب اللَّه المختار، وبحقّ اليهود في التجمّع في أرض فلسطين. وهذه الحركة هي الأساس الراسخ للصهيونية المسيحية(44).
وعلى الرغم من أن هناك كنائس مسيحية كاثوليكية في الدرجة الأولى، وحتى كنائس إنجيلية، مثل الكنيسة المشيخية (بالإضافة إلى الكنائس الشرقية الأرثوذكسية)، تنبذ هذه الأفكار وتعتبرها دخيلةً على المسيحية ومُقوِّضة لأركانها الإيمانية(45)، فإن قوّة هيمنة هذه الحركة في الولايات المتحدة الأمريكية، تجعلها نافذة وقادرة على الانتقال والتوسّع والامتداد، وإن كان في أشكال مختلفة. وقد رأينا في الفترة الأخيرة كيف أن الفاتيكان قد اتخذ قرارات تاريخية بإزاء اليهود تدخل في صميم العقيدة المسيحية المتوارثة جيلاً بعد جيل، وهي قرارات تخدم في المقام الأول السياسيةَ الصهيونية.
من أجل هذا كلّه، ينبغي الحذر من أن يقع التعايش بين الأديان تحت تأثير مثل هذه الحركات والأفكار التي تبرأ منها المسيحية، والتي تخدم أهدافاً سياسية خطيرة تتعارض مع الأهداف الإنسانية النبيلة، لأن أي طرف مسيحي يشارك ويندمج في التعايش بين الأديان، يقع تحت تأثير مثل هذه الحركات ــ التي يحقّ لنا أن نصفها بأنها هدَّامةٌ للتعايش من حيث هو ــ من شأنه أن يعرّض كلَّ جهد يبذل في هذا المجال للخطر، بأن يفقده جدواه ويفرغه من قيمته ويسلبه أهميته.
إن التعايش بين الأديان، الذي هو في الوقت نفسه تعايُشٌ بين الثقافات والحضارات، إن لم يكن الهدف منه خدمة الأهداف السامية التي يسعى إليها الإنسان، ضاع المعنى الإيجابي منه، وصار إلى الدعاية واللجاجة، أقرب منه إلى الصدق والتأثير في حياة الإنسان المعاصر. ومن أجل ذلك، يتوجب علينا نحن المسلمين، أن ندقّق في الأغراض والمرامي التي تنطوي عليها الدعوات التي تصدر عن بعض الأطراف إلى الحوار مع الأديان والثقافات والحضارات، والتي تدعونا إلى التعايش مع أهل هذه الأديان والمنظومات العقائدية، حتى لا نكون ضحية للغشّ الثقافي والديني، الذي هو أشدّ خطراً وأقوى أثراً وأسوأ عاقبةً، من الغشّ التجاري والصناعي.
إننا، ومن واقع تقديرنا للمخاطر التي تتهدّد البشرية في هذه المرحلة من التاريخ، نؤمن بأن التعايش مع الأديان بصفة خاصة، ضرورةٌ من الضرورات الملحة التي يفرضها الحفاظُ على سلامة الكيان الإنساني، ويُمليها الحرصُ المشترك على البقاء الحرّ الكريم فوق هذا الكوكب.
ولا يخامرنا شك في أن التعايش بين الأديان، سيكون أشدّ إلحاحاً في المستقبل القريب، لما يبدو لنا من مؤشّرات في الأفق تؤكّد جميعُها على أن القرن الحادي والعشرين، سيعرف أزمات شديدة الوطء على المستوى السياسي والاقتصادي، وعلى الصعيد الحضاري والثقافي معاً. وفي مثل هذا المناخ، تتضاعف أهميةُ رسالة الأديان السماوية، وتَتَعَاظَمُ مسؤولية المؤمنين في الدّفع بالتعايش بين الأديان نحو الاتجاه الصحيح، عملاً بالتوجيه الربَّاني في قوله تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلاَّ اللَّه، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون }(46).
ويمكن لنا أن نستنبط من هذه الآية الكريمة القاعدة الشرعية التي تحدّد موقف الإسلام من التعايش بين الأديان. إن (كلمة سواء) التي أمر اللَّه سبحانه وتعالى نبيّه محمداً صلى اللَّه عليه وسلم، بأن يدعو أهل الكتاب إليها، يأتي بيانُها المفصَّلُ في ثلاثة أمور رئيسَة، هي إن كانت تدور حول التوحيد والإقرار بالربوبية والألوهية للَّه عزَّ وجل، فإن الحسّ المؤمن يستمدّ منها معاني وإشارات ذات علاقة بواقع الناس في معاشهم وحياتهم، وهي :
أولاً : ألاَّ نعبد إلاَّ اللَّه؛
ثانياً : ولا نشرك به شيئاً؛
ثالثاً : ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه.
فهذه الآية هي القاعدة الذهبية للتعايش بين الأديان، لأنها تدعو إلى إفراد اللَّه بالعبودية، وإلى عدم الإشراك به، وإلى رفض الطغيان والجبروت والكبرياء وفرض الهيمنة، وذلك بأن يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون اللَّه، يستوحون منهم التعاليم والمبادئ، أو يخشونهم، أو يخضعون لما يملكونه من قوّة باطشة، مما يؤدي إلى خلل في الكيان الإنساني، وإلى الفوضى في العالم. فليكن التعايش بين الأديان إذن، من أجل اللَّه وحده لا شريك له، ومن أجل الحياة الإنسانية الحرّة الكريمة، في ظلّ الإيمان والخير والفضيلة وما فيه مصلحةُ الإنسان في كلّ الأحوال.
قلنا إن التعايش هو ضربٌ من التعاون الذي يقوم على أساس الثقة والاحترام المتبادلين، والذي يهدف إلى غايات يتفق عليها الطرفان، أو الأطراف التي ترغب في التعايش، وتمارسه عن اقتناع وطواعية، وباختيار كامل. فكيف يتم هذا التعايش ؟ ما أساليبه وطرقه ووسائله ؟ ما قنواته ؟ ثم، ما أهدافه وغاياته ؟.
يتعيّن علينا بادىء الأمر، أن نؤكد تأكيداً جازماً، أن التعايش الذي نفهمه، ونؤمن به، والذي نرحب بالتعاون من أجل إقراره، لا يعنى بأية حال من الأحوال، تمييع المواقف، وخلط الأوراق، ومزج العقائد وتذويبها وصبّها في قالب واحد، حتى وإن زعموا أنه قالبٌ إنسانيٌّ في الصميم. ذلك أن أصحاب العقائد السليمة لا يقبلون هذا الخلط المريب الغامض، ويرفضون ـ رفضاً بصيراً واعياً ـ أن يفرطوا في خصوصياتهم ومقوّماتهم وقيمهم، خشية أن يوصموا بالتعصب، أو حتى يظفروا بصفة التحرّر من العقد المركبة. إن التعايش الذي يُسلب المسلم هويتَه، ويجعل توازنَه يختلُّ، وكيانَه يهتزّ، هو ليس بتعايش، وإنما هو غشّ، واحتيال، وتضليل.
أما إذا كان التعايش، هو أن يحتفظ كلُّ طرف بدينه كاملاً غير منقوص، ويتشبث بمكوّنات هويته وافرةً غير مثلوبة، كان هو عين القصد، وجوهر التعامل الذي نسعى إلى إقامته مع غير المسلمين.
إن التعايش بين المسلمين وبين غيرهم من أهل الأديان، ينبغي أن ينطلق من الثقة والاحترام المتبادلين، ومن الرغبة في التعاون لخير الإنسانية، في المجالات ذات الاهتمام المشترك، وفيما يمسّ حياة الإنسان من قريب، وليس فيما لا نفع فيه، ولا طائل تحته.
ولعلَّ الإطار الذي رسمه الشيخ محمد الغزالي يرحمه اللَّه للتعايش، يمثّل في رأينا، الصيغة المثلى لتحديد صورة هذا التعايش بين المسلم وبين غير المسلم، فقد وضع، ثلاثة مبادىء للتعايش والحوار، هي :
أولاً : الاتفاق على استبعاد كل كلمة تخدش عظمة اللَّّه وجلاله، فأنا وأنت متفقان على أن الله قد أحاط بكل شيء علماً، وأنه لا يُعجزه شيءٌ في السماوات ولا في الأرض، وأن رحمته وسعت كلَّ شيء، وأنه ليس متصفاً بالنقائص والعيوب التي تشيع بين البشر ...الخ.
ثانياً : الاتفاق على أن اللَّه يختار رسله من أهل الصدق والأمانة والكياسة.
ثالثاً : ما وجدناه متوافقاً في تراثنا نرُدُّ إليه ما اختُلِفَ فيه، وبذلك يمكن وضع قاعدةٍ مشتركةٍ بين الأديان (42).
من هذه القاعدة يمكن أن ننطلق، على سبيل المثال لا الحصر، في اتجاه تعميق البحث العلمي في إطار جهود مشتركة للوصول إلى نتائج تدعم أسس التعايش الذي هو في البدء والختام، التعاونُ بين المؤمنين في الأرض على ما فيه الخيرُ والصلاح للإنسانية جمعاء. والبحثُ العلميُّ النزيهُ عن اتصال الأديان وآثار ذلك الاتصال، خطوةٌ صالحةٌ، في سبيل السلام العالمي، والأخوة الإنسانية، التي سَمَتْ إليها الروح الدينية العالية، وحلمت بها الفلسفة منذ شروق شمس الحياة الفكرية، ثم لا تزال تتطلّع إليها العناصر الكريمة في الحياة العاملة، وهو بحثُ يوسّع أفق المتدينين، ويدفعهم من التديّن إلى أطهر معانيه، على حين هو في الوقت نفسه، واجبٌ علميٌّ لخدمة الحقيقة، يتولاه الباحثون في تاريخ الأديان، ومقارنتها(43).
والاشتراك في جهود علمية ثقافية في هذا المجال، يعود بالفائدة على المؤمنين جميعاً، لأن هذه الجهود تصبُّ في اتجاه تعميق التفاهم بين أهل الأديان، وإشاعة القيم الإنسانية في أوساطهم، وإقامة جسور للتقارب الإنساني الذي يعلو على التقارب الفكري والثقافي.
والتعاون بين الأديان في المحافظة على سلامة البيئة، وفي محاربة الأمراض الخطيرة، وفي القضاء على التفرقة العنصرية، وفي رفع الظلم عن الشعوب والطوائف والفئات التي تتعرض للاضطهاد، هو مجالٌ واسعٌ للتعايش بين المؤمنين.
كذلك ينبغي أن يشمل التعايش بين الأديان العملَ المشترك لمحاربة الإلحاد، والانحلال الخلقي، وتفكك الأسرة، وانحراف الأطفال، ومقاومة كل الآفات والأوبئة التي تتهدّد سلامة كيان الفرد والجماعة، وتضر بالحياة الإنسانية.
ويجب أن يتسع مفهومُ التعايش بين الأديان للقضاء على أسباب التوتر واضطراب حبل الأمن والسلام وعدم الاستقرار في أنحاء عديدة من العالم، مثل فلسطين، والبوسنة والهرسك، وإقليم كوسوفو، وكشمير، والفليبين، وفي مناطق كثيرة في أفريقيا وآسيا، فيكون العمل في هذا النطاق تعايشاً نافعاً ومُجدياً وذا تأثيرٍ في حياة الناس وواقعهم المعيش. وبذلك يصير التعايش بين الأديان وسيلةً فعالة لدعم جهود المجتمع من أجل السلام وإقامة العلاقات السليمة بين الشعوب والأمم في ظلّ سيادة القانون الدولي، واحترام حقوق الإنسان، وإقرار الحريات الأساس المنصوص عليها في المواثيق والعهود والأوفاق الدولية.
وينبغي أن يتجه التعايش بين الأديان نحو إنصاف المظلومين والمقهورين في الأرض جميعاً من دون استثناء، وإلزام كل من يمارس الظلم والقهر والإرهاب على مستوى الدولة أو على مستوى الأفراد والجماعات، باحترام أحكام القانون الدولي، والانصياع إلى تعاليم الأديان السماوية. ولا يجوز أن يُخرج التعايش بين الأديان من نطاق اهتماماته، محاربةَ الظلم والعدوان والاستيلاء على أراضي الغير بالقوّة، تحت أية دعوى من الدعاوي، أو مهادنة الجهة التي ترتكب هذه الجرائم بحجة عدم الخوض في المسائل السياسية، فمن أهداف التعايش بين الأديان، العملُ على إقرار مبادئ الحق والعدل واحترام كرامة الإنسان من حيث هو إنسان وكفى. فهذه المبادئ والتعاليم هي القاسم المشترك بين جميع الأديان.
ويجب أن يكون التعايش بين الأديان دعماً للجهود الخيّرة التي يبذلها المجتمع الدولي من أجل التعايش الحضاري والثقافي بين الأمم والشعوب، وأن يكون قوّة دفع لهذه الجهود نحو تطويرها، وإغنائها، وتعميمها. وحتى يكون التعايش بين الأديان في خدمة السلام العادل، يجب أن تتحرّر الأطراف المشاركة فيه، من كل القيود والضغوط والارتباطات التي تتعارض ومبادئ هذا التعايش وأهدافه.
إن هناك تأثيراً واضحاً لليهودية الصهيونية على بعض الأطراف المسيحية، تتجلى مظاهرهُ في مواقف عديدة تصبُّ جميعُها في الاتجاه المناهض للحقائق التاريخية. وعلى سبيل المثال، ظهرت في بريطانيا أولاً، ثم في الولايات المتحدة الأمريكية حركات دينية مسيحية إنجيلية، أهمها وأقـــواها هي ما يُعرف بالحــركــة التدبيرية ـ DISPENSATIONALISM ـ وهذه الحركة تؤمن بأن في الكتاب المقدس، وخاصة في سفر حزقيال، وسفر الرؤيا، وسفر يوحنا، نبوءات واضحة حول الوصايا التي يحدّد اللَّه فيها كيفية تدبير شؤون الكون ونهايته : عودة اليهود إلى فلسطين، قيام إسرائيل، وقوع محرقة "هَرْمَجَدُّون" النووية، انتشار الخراب والدمار ومقتل الملايين، وظهور المسيح المُخَلِّص، مبادرة من بقى من اليهود إلى الإيمان بالمسيح، انتشار السلام في مملكة المسيح مدة ألف عام. وهي حركة تضم أكثر من أربعين مليون أمريكي، وكان من بين أعضائها الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريغان، وتسيطر هذه الحركة على قطاع واسع من المنابر الإعلامية الأمريكية، وبصور ة خاصة المتلفزة، ويشارك قادتُها كبارَ المسؤولين الأمريكيين في البيت الأبيض، والبنتاغون، ووزارة الخارجية، في صناعة قراراتهم السياسية والعسكرية من الصراع العربي ـ الصهيوني. وأتباع هذه الحركة يؤمنون بأن اليهود هم شعب اللَّه المختار، وبحقّ اليهود في التجمّع في أرض فلسطين. وهذه الحركة هي الأساس الراسخ للصهيونية المسيحية(44).
وعلى الرغم من أن هناك كنائس مسيحية كاثوليكية في الدرجة الأولى، وحتى كنائس إنجيلية، مثل الكنيسة المشيخية (بالإضافة إلى الكنائس الشرقية الأرثوذكسية)، تنبذ هذه الأفكار وتعتبرها دخيلةً على المسيحية ومُقوِّضة لأركانها الإيمانية(45)، فإن قوّة هيمنة هذه الحركة في الولايات المتحدة الأمريكية، تجعلها نافذة وقادرة على الانتقال والتوسّع والامتداد، وإن كان في أشكال مختلفة. وقد رأينا في الفترة الأخيرة كيف أن الفاتيكان قد اتخذ قرارات تاريخية بإزاء اليهود تدخل في صميم العقيدة المسيحية المتوارثة جيلاً بعد جيل، وهي قرارات تخدم في المقام الأول السياسيةَ الصهيونية.
من أجل هذا كلّه، ينبغي الحذر من أن يقع التعايش بين الأديان تحت تأثير مثل هذه الحركات والأفكار التي تبرأ منها المسيحية، والتي تخدم أهدافاً سياسية خطيرة تتعارض مع الأهداف الإنسانية النبيلة، لأن أي طرف مسيحي يشارك ويندمج في التعايش بين الأديان، يقع تحت تأثير مثل هذه الحركات ــ التي يحقّ لنا أن نصفها بأنها هدَّامةٌ للتعايش من حيث هو ــ من شأنه أن يعرّض كلَّ جهد يبذل في هذا المجال للخطر، بأن يفقده جدواه ويفرغه من قيمته ويسلبه أهميته.
إن التعايش بين الأديان، الذي هو في الوقت نفسه تعايُشٌ بين الثقافات والحضارات، إن لم يكن الهدف منه خدمة الأهداف السامية التي يسعى إليها الإنسان، ضاع المعنى الإيجابي منه، وصار إلى الدعاية واللجاجة، أقرب منه إلى الصدق والتأثير في حياة الإنسان المعاصر. ومن أجل ذلك، يتوجب علينا نحن المسلمين، أن ندقّق في الأغراض والمرامي التي تنطوي عليها الدعوات التي تصدر عن بعض الأطراف إلى الحوار مع الأديان والثقافات والحضارات، والتي تدعونا إلى التعايش مع أهل هذه الأديان والمنظومات العقائدية، حتى لا نكون ضحية للغشّ الثقافي والديني، الذي هو أشدّ خطراً وأقوى أثراً وأسوأ عاقبةً، من الغشّ التجاري والصناعي.
إننا، ومن واقع تقديرنا للمخاطر التي تتهدّد البشرية في هذه المرحلة من التاريخ، نؤمن بأن التعايش مع الأديان بصفة خاصة، ضرورةٌ من الضرورات الملحة التي يفرضها الحفاظُ على سلامة الكيان الإنساني، ويُمليها الحرصُ المشترك على البقاء الحرّ الكريم فوق هذا الكوكب.
ولا يخامرنا شك في أن التعايش بين الأديان، سيكون أشدّ إلحاحاً في المستقبل القريب، لما يبدو لنا من مؤشّرات في الأفق تؤكّد جميعُها على أن القرن الحادي والعشرين، سيعرف أزمات شديدة الوطء على المستوى السياسي والاقتصادي، وعلى الصعيد الحضاري والثقافي معاً. وفي مثل هذا المناخ، تتضاعف أهميةُ رسالة الأديان السماوية، وتَتَعَاظَمُ مسؤولية المؤمنين في الدّفع بالتعايش بين الأديان نحو الاتجاه الصحيح، عملاً بالتوجيه الربَّاني في قوله تعالى { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم، ألا نعبد إلاَّ اللَّه، ولا نشرك به شيئاً، ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنَّا مسلمون }(46).
ويمكن لنا أن نستنبط من هذه الآية الكريمة القاعدة الشرعية التي تحدّد موقف الإسلام من التعايش بين الأديان. إن (كلمة سواء) التي أمر اللَّه سبحانه وتعالى نبيّه محمداً صلى اللَّه عليه وسلم، بأن يدعو أهل الكتاب إليها، يأتي بيانُها المفصَّلُ في ثلاثة أمور رئيسَة، هي إن كانت تدور حول التوحيد والإقرار بالربوبية والألوهية للَّه عزَّ وجل، فإن الحسّ المؤمن يستمدّ منها معاني وإشارات ذات علاقة بواقع الناس في معاشهم وحياتهم، وهي :
أولاً : ألاَّ نعبد إلاَّ اللَّه؛
ثانياً : ولا نشرك به شيئاً؛
ثالثاً : ولا يتخذ بعضنا بعضاً أرباباً من دون اللَّه.
فهذه الآية هي القاعدة الذهبية للتعايش بين الأديان، لأنها تدعو إلى إفراد اللَّه بالعبودية، وإلى عدم الإشراك به، وإلى رفض الطغيان والجبروت والكبرياء وفرض الهيمنة، وذلك بأن يتخذ الناس بعضهم بعضاً أرباباً من دون اللَّه، يستوحون منهم التعاليم والمبادئ، أو يخشونهم، أو يخضعون لما يملكونه من قوّة باطشة، مما يؤدي إلى خلل في الكيان الإنساني، وإلى الفوضى في العالم. فليكن التعايش بين الأديان إذن، من أجل اللَّه وحده لا شريك له، ومن أجل الحياة الإنسانية الحرّة الكريمة، في ظلّ الإيمان والخير والفضيلة وما فيه مصلحةُ الإنسان في كلّ الأحوال.