التاريخ وفكرة التقدم

المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم

إن التاريخ كصيرورة أو سلسلة من الوقائع والأحداث، يقود إلى التساؤل عن منطق التاريخ: هل هو تقدم أم تكرار؟ هل هناك غاية أو معنى من تراكم التجارب الإنسانية وتسلسل أحداثها أم ذلك يتم بدون غاية أو معنى، وبالتالي يسير تحت رحمة الصدفة؟
أطروحة إدوارد كار
يحدد كار مفهوم التاريخ من خلال التمييز بين التقدم والتطور، حيث يرى أن التطور ذو حمولة بيولوجية، يشير إلى النشوء والارتقاء، وبالتالي لا يمكن قياس قوانين التاريخ على قوانين الطبيعة، في حين يرتبط مفهوم التقدم بأفق سوسيو تاريخي، غير أن مفهوم التقدم نسبي فالتاريخ لا يتجه دائما فيخط متواصل، بدون توقف أو انعطاف بل يتسم بالانقطاع وعدم الاستمرارية.
أطروحة كارل ماركس
يفسر ماركس تقدم التاريخ بفعل التناقض بين قوى الإنتاج المادي (مختلف الوسائل التي يستخدمها الإنسان في الإنتاج بما في ذلك القوى العاملة، وعلاقات التي تربط بين الناس أثناء عملية الإنتاج المادي) وينتهي هذا التناقض بميلاد مجتمع جديد، وبالتالي تاريخ جديد.
أطروحة كلود ليفي ستروس
يؤكد ستروس فكرة التقدم في التاريخ، غير أنه يرى أن التقدم ليس سلسلة متصلة أو منتظمة، أي كخط متصاعد أو سلم، وإنما حركة تختلف في المكان، تلك حال الأنماط الحضارية المختلفة، إن التقدم يجري عبر قفزات أو وثبات، عبر تحولات فجائية وفي جميع الاتجاهات، مما يؤكد أن التقدم التاريخي متقطع ويخضع للصدفة والنسبية.
خلاصة تركيبية
يختلف المفكرون حول طبيعة مسار التقدم التاريخي (منطق التاريخ)، فأصحاب نظرية التطور الدائري (ابن خلدون- تونبي…) يعتقدون أن التقدم يتم على شكل خط دائري أي أن التاريخ يعيد نفسه » ويتميز بتكرار نفسه.
في المقابل، فإن المقاربة الخطية تعتبر التقدم يسير في اتجاه مستقيم، أوجست كونت صاحب قانون « الحالات الثلاث » يرى أن الفكر الإنساني يمر عبر ثلاث مراحل (الحالة اللاهوتية، الحالة الميتافيزيقية، والحالة الوضعية والعلمية)، فالفكر الإنساني تاريخيا هو بمثابة سلسلة متصلة الحلقات. هناك أيضا مورغان (انترولوجي معاصر) يرى بدوره أن تقدم المجتمعات البشرية خطي: مرحلة التوحش مرحلة البربرية ومرحلة التحضر، وهو تقدم لا يعرف الانحراف ولا الانعطاف ولا القفز وإنما هو تقدم تتحكم فيه الضرورة التاريخية كحتمية مطلقة.
أما الماركسية، فتحدد التقدم على شكل لولبي أو حلزوني، يتجه دائما إلى الأمام بشكل تصاعدي، أي أن التاريخ البشري محكوم بتقدم هو في حقيقته تتال لأنماط إنتاج تفهم باعتبارها مراحل تقود إلى بعضها البعض عبر النفي، ويفترض التحليل المركسي وجود هذه الضرورة في الأساس المادي للمجتمع،  (مرحلة المشاعية البدئية- العبودية- الإقطاعية- الرأسمالية- الاشتراكية). غير أن هذه المقاربات الخطية ستنتهي إلى تصور إطلاقي مغلق لضرورة تجعل التاريخ يسير نحو اتجاه محدد وغائي، وفي هذا الصدد وجه كلود ليفي ستروس نقدا حادا لفكرة التقدم بالمعنى السابق، فالتقدم التاريخي في نظره يمكن أن يعرف قفزات أو وثبات، مما يجعله يعرف تحولات فجائية، كما يمكن أن يعرف انعطافا أو تراجعا أو استقرارا.
إذن يمكن لهذا التقدم أن يسير في جميع الاتجاهات الممكنة، مما يعني أنه ليس هناك حتمية أو ضرورة تتحكم في سيره (التقدم) إن القول بفكرة التقدم الضروري الآلي والمحكوم مسبقا بمآل حتمي يضفي على تاريخ البشر صيغة تنفيذ برنامج محدد سلفا، كما يؤدي إلى قبول سلم تصنيف وترتيب يسلم بهيمنة النموذج الغربي، وبكونية تكذبها الانتربولوجيا، فالمجتمعات ليست مطالبة باتباع نفس المسار التطوري الخطي بدعوى ضرورة التقدم، لأن في احترام الاختلاف الثقافي تنسيب لفكرة التقدم (أي نسبية التقدم التاريخي.
*************
المحور الثاني: التاريخ وفكرة التقدم:
إذا كان الماضي يتكون من مجموعة من الأحداث المتعاقبة كرونولوجيا، فهل نستطيع أن نؤكد بأن الوقائع التاريخية تعرف سيرورة تراكمية...؟

موقف الماركسية:
تعتقد الماركسية أن الناس يدخلون في علاقات إنتاج، وبالتالي شروط موضوعية مستقلة عن إرادتهم، وفي حالة ما إذا كانت وسائل الإنتاج ملكية خاصة، فإن ذلك حتما يقود إلى الطبقية وبالتالي إلى استغلال الإنسان للإنسان، هكذا عرف التاريخ أنماطا متعاقبة للإنتاج سادت فيها الطبقية ويتمثل آخرها في نمط الإنتاج الرأسمالي، ويمكن تفسير التحولات التي عرفتها المجتمعات من خلال القوانين الدياليكتيكية التي تقنن صيرورة الوجود الاجتماعي، ومن ثم يمكن تفسير جميع أشكال التحولات التاريخية للمجتمعات من خلال صراع المتناقضات، لهذا ترى الماركسية أن محرك التاريخ هو الصراع الطبقي.

موقف ميرلوبونتي Merleau-Ponty
إذا كانت الماركسية تحدد دينامكية التاريخ في القوانين الجدلية، فإن ميرلوبونتي Merleau-Ponty يؤكد أن للتاريخ منطقه الخاص: فهو من جهة عبارة عن تراجيديا واحدة تتأطر داخلها جميع الأحداث، ومن جهة أخرى يلاحظ أن مكونات تلك التراجيديا تتنامى بشكل متسلسل وتعاقبي نحو نهاية معينة، وبما أن التاريخ يعتبر نسقا منفتحا فإن ذلك ما يسمح بوجود فجوات تؤثر في انتظام سيرورة الوقائع: فقد يحدث أن تختل العلاقة الجدلية بين الشروط الاقتصادية والشروط الأيديولوجية، بحيث يسبق النضج الأيديولوجي النضج الاقتصادي، كما يمكن أن تزيغ دينامية التاريخ عن الأهداف المرسومة والغايات المتوقعة، لكن ذلك لا يبيح التخلي عن الاعتقاد بوجود "منطق للتاريخ"، لأن هذا سيفسح المجال لاعتبار التاريخ مجرد احتمالات ضمن سلسلة من الممكنات.

موقف ليفي ستروس  Lévi-Strauss
ولعل ذلك ما يتجه إليه تمثل ليفي ستروس  Lévi-Strauss لأن هذا العالم الأنتروبولوجي يعتقد أن تكريس فكرة التقدم فيه كثير من المجازفة، فالتاريخ لا يدل ضرورة على وجود حركية تتجه نحو التقدم، وفكرة التقدم قد تشير فقط إلى وقائع متزامنة مرتبطة بأمكنة مختلفة، وليس بالضرورة إلى وقائع متدرجة عبر الزمان، فقد ذهب الناس مثلا إلى الاعتقاد بوجود "عصر حجري" قبل "العصر البرونزي"، وذلك أمر لم يحدث بالضرورة، والحقيقة أنه نظرا لتطور تقنية صناعة الأدوات والمعدات من البرونز والنحاس قياسا بصناعتها من الحجارة فرض تفوق التقنية الأولى عن الثانية. ذلك ما جعلنا نعتقد أن الأمر يتعلق بتقدم حدث عبر الزمان، بل إن ليفي ستروس ذهب إلى التأكيد أن تحول الوقائع عبر التاريخ يحدث وفق ما يسمى عند البيولوجيين بالطفرات، هكذا يكون التراكم التاريخي مجرد عملية حسابية تستجمع كل الوقائع التي مرت، وذلك لا يؤكد حتما وجود تسلسل منطقي. 


المزيد حول الموضوع

الربح من الفايسبوك والانستغرام باختصاار الروابط