بعد هذا العرض نصل إلى محاولة استخلاص أهم معالم المنهج الإسلامي وخطته في مكافحة الخمر والمخدرات والوقاية من أضرارها المختلفة، ومن الواضح أنه منهج يندرج في النسق العام لفلسفة الإسلام الشاملة في التربية والتغيير وإعادة تشكيل الأفراد والمجتمع وفق المنظور الإسلامي المتميز.
إن معالجة الإسلام لموضوع الخمر والمخدرات كانت عبارة عن مخطط محكم، برنامج عمل طويل الأمد، منح لنفسه ما يكفي من الوقت، وجند لإنجازه وإنجاحه مختلف الوسائل المتوفرة، فاتحدت إلى جانبه الإرادات الفردية والاجتماعية والتشريعية والسياسية، تدعمه وتسانده، وتسهر على تنفيذه، وتحرص على إنجاحه، ومن أهم تلك الجوانب التي شملها هذا المخطط ما يلي :
الجانب الفردي : حيث وقع التركيز في المعالجة والوقاية بالدرجة الأولى على الأفراد، على الإنسان، على تغيير ما بنفسه من أجل تغيير حاله وواقعه، ولذلك كانت الركيزة الأولى هي بناء الأساس العقدي النفسي عند الإنسان، ودعم مناعته النفسية عن طريق تقوية إيمانه، وتعزيز تشبثه بتعاليم الإسلام، وتحسيسه بأهمية الاندماج في مجتمعه المسلم، وبضرورة الحفاظ على نفسه وصحته من الهلاك.
وكان أسلوب المعالجة متنوعاً فيه ترغيب وترهيب، وفيه وعد ووعيد، وفيه نصح وإرشاد وتوجيه، وفيه أيضاً تلطف بالعاصي المخالف وتحفيز له على التوبة إلى الله والرجوع إلى الحق وإلى أحضان المجتمع ليتخلص بسرعة من ذنبه ومن آثار زلته، أسلوب يخاطب العقل ويقنعه بالحجة والبرهان، ويستميل العاطفة بالرفق وبالتي هي أحسن.
الجانب الاجتماعي : من أهم عوامل نجاح هذا المنهج أن توفرت له "الإرادة الاجتماعية" أي اتفاق الجميع على قبوله واتباعه، ومساهمتهم الفعالة في تنفيذه وتطبيقه. وقد تجلى ذلك في الاستجابة الفورية لتطبيق أمر الله ورسوله في تحريم تعاطي الخمر والتعامل بها، وفي إتلافها وإزالة آثارها من الحياة الاجتماعية للمسلمين، كما تتجلى في تعزيز حملة مكافحة الخمر عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما ساعد على تقوية المناعة الاجتماعية ضد أي مخالفة لأوامر الله في الخمر والمسكرات.
الجانب التشريعي والتنفيذي : كانت الإرادة التشريعية الإسلامية واضحة صريحة حازمة في تحريم الخمر والمخدرات، وهو ما يظهر من خلال مجموعة النصوص (آيات قرآنية، أحاديث نبوية، فتاوى فقهية) التي صدرت بشأن تعاطي الخمر والمخدرات، والمتاجرة فيها، والتعامل بها، والتحذير من أضرارها ومخاطرها. وإلى جانب هذه الإرادة التشريعية، كانت هناك الإرادة السياسية التنفيذية، بخاصة في عهد النبوة والخلافة الراشدة، حيث أظهر الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته الكرام حزماً وعزماً أكيدين في تنفيذ حكم الله في الخمر والمسكرات، وتخليص المسلمين والأمة الإسلامية منها ومن آثارها المدمرة.
المفسدات الحسية:
وهي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل، بحيث يصبح الإنسان كالمجنون، وهذه المفسدات هي: الخمور والمخدرات وما شابهها.
وقد جاء تحريم ذلك في كتاب الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:91).
كما ورد تحريمها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام. ومن شرب الخمر في الدنيا فمات، وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة" (رواه مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". (متفق عليه)
أي إنه حين يشربها يرتفع عنه إيمانه، كما قال بذلك بعض أهل العلم. وكذلك لعن كل من يمت للخمر بصلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقيها". (صحيح الجامع).
كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذريعة وسبب قد يؤدي إلى تناولها، وذلك من التدابير الوقائية، فنهى عن الجلوس على مائدة يدار فيها الخمر، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أيها الناس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر".
وكذلك حرم التداوي بالخمر، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بدواء ، ولكنه داء" (صحيح الجامع) وذلك تحرزاً من الاعتياد عليها من مبدأ التداوي بها. لذلك قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".(صحيح الجامع)
وقد أجمع الفقهاء الذين ظهرت في عصورهم هذه الآفة على تحريمها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الحشيشة الملعونة المسكرة، فهي بمنزلة غيرها من المسكرات، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكراً". (مجموع الفتاوى ج 34 ص 204).
ولا يشك عاقل في ضرر المسكرات والمخدرات على العقل وإفسادها له ، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "الخمر ما خامر العقل" أي غطاه.
وتغطية العقل تؤدي إلى فساد تصرف الإنسان؛ فيخرج بأفعاله عن المألوف؛ وكلامه عن المعروف؛ فالخمر مفتاح كل شر كما قال بذلك النبي صلى الله عليه وسلم "لا تشربوا الخمر فإنها مفتاح كل شر" (صحيح الجامع).
فشرها وشؤمها لا يقتصر على صاحبها فحسب، بل يتعدى إلى الغير، ويجر متناولها إلى ارتكاب منكرات ومفاسد كثيرة في الناس، فهي أعظم أسباب التعدي على الضرورات الخمس، التي جاءت الشريعة بحمايتها وحفظها، فكم حصل بسببها سفك للدماء المحرمة، وانتهاك للأعراض وإتلاف للأموال، وإفساد للعقول وتفويت لمصالح الدين وتضييع لأمانات الحقوق والمعاملات التي شملها مفهوم الأمانة الواسع الذي هو كل ما في عهدة الإنسان من أمور حسية ومعنوية من حقوق ومعاملات ونعم وغيرها.
ومن المناسب أن نذكر هنا قصة وردت في السنة تكشف تعدي خطر الخمر على الحقوق والضرورات.. فقد روى النسائي بسنده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبد، فعلقته - أي أحبته وعشقته - امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية ـ أي إناء خمر- فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام، فقال: فاسقيني من هذا الخمر كأساً، فقال: زيدوني، فلم يدم حتى وقع عليها، وقتل النفس.. فاجتنبوا الخمر؛ فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا يوشك أن يخرج أحدهما الآخر".
وقد بينت إحصائيات الأمن العالمية أن الصلة وثيقة بين السُكْر وبين القتل، والضرب والجرح ، الجرائم الجنسية والحريق والجرائم غير العمدية كحوادث السيارات مثلاً.
ومن سلبيات المخدرات الشنيعة أنها سبب في تشتيت الحياة العائلية؛ فتصبح حياة المؤمن الزوجية جحيماً لا يطاق، فهو مهمل لبيته وزوجته وأولاده مهين لهم، تزداد عنده حالة الشك والريبة في كل من حوله.
والآن لماذا تعاطي هذه القنابل الذرية المدمرة للذات والعقل والروح؟ وقد بينت الإحصائيات أن أكثر من دمرت هذه القنابل فئة الشباب الذين هم قوة الشعوب وطاقتها حيث يبلغ نسبتهم حوالي70% من مجموع أعداد المدمنين.
ومما يدفع إلى تعاطيها - وخاصة فئة الشباب - عدة أسباب رئيسية نستطيع أن نجملها في أمور منها:
1ـ اتفق المصلحون على أن ضعف الإيمان وغياب الوازع الديني سبب رئيسي لانتشار المخدرات، وذلك الأمر يعود إلى ضعف التربية الإيمانية وغياب التوعية الدينية من قبل الآباء لأبنائهم وإهمال إنشاء الحصانة العقيدية والفكرية التي تغرس في قلب الناشئ معرفة الله تعالى ومراقبته واستشعار معيته وعظمته، حتى تتعلق قلوبهم وأرواحهم بالله تعالى خوفاً ورجاءً؛ فتكون جميع حركاتهم وسكناتهم السرية والعلنية موافقة لمنهج الله تعالى لإحساسهم الدائم بمراقبته وإحصائه لأعمالهم وأنهم مجزيون بها عائدة عليهم تبعتها كما قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: من الآية31). وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} (النجم:41) .
والمواصلة معهم على المنهج التربوي الإيماني والتركيز عليه، وبهذا المنهج تربى الطفل في عصر النبوة تربية راسخة، جعلته قوة فعالة ثابتة، وروحاً تقية نقية، في أمثلة واقعية تفوق الخيال، فلا يكاد يفرق بين الرجل الكبير والطفل الصغير؛ فالكل كبار بأفعالهم الحميدة.
2- الانفتاح المادي مقابل التوسع الإعلامي أحدث تيارات من الفتن والمغريات الجارفة، قل صبر فئات كثير من الناس أمامها، فانغمسوا فيها، ونسوا كثيراً مما ذكروا به، وغفلوا عن أوامر ربهم، وما رتب عليها من الجزاء، فغلبت الشهوات وضعف الدين، وتنكب كثير من المسلمين عن صراط الله المستقيم.
3ـ ومن أسباب انتشار المخدرات: تفكك المجتمع والروابط الأسرية وعدم وجود الروابط الاجتماعية المتنوعة، إذ إن الحياة العصرية الحديثة اتسمت بالجري الدائم وراء المزيد وتحقيق المصالح الشخصية، الأب يريد أن يزيد دخله ويرفع مدخراته، والأم تسعى لإبراز وجودها الاجتماعي- وما يتطلبه ذلك من مظاهر- وكذلك استغلال دخلها المادي، والأبناء لهم مطالب في مجاراة أترابهم وأبناء عصرهم الذين بهرهم بريق الحضارة الغربية، بما تحمله من ضلال وفساد، فكان من جراء ذلك التقليد الأعمى، والتطبيق لما يرد عليهم من هناك تحت مسميات وشعارات "الموضة والترفيه" وأحياناً باسم التقدم والتطور وأوهام الحرية المزعومة، فتشكل من ذلك كله ضعف الترابط الأسري، واتساع الفجوة بين الآباء والأبناء وصعوبة التفاهم بينهم، فانتقل هذا التيار المدمر من بلاد الغرب إلى البلاد العربية والإسلامية، فأدى إلى اضطرابات نفسية وقلاقل اجتماعية وجدب عاطفي، دفع الكثير من الشباب إلى تناول المسكرات والمخدرات كحل ومهرب من هذه الضغوط.
وتحت هذا السبب أيضاً، فإن الشاب قد يصل إلى مرحلة متطورة من الإدمان دون أن يشعر أفراد البيت ببوادر تناوله للمخدرات الواضحة، وما ذلك إلا لغياب دور الرقيب من قبل الآباء والأمهات وإهمال متابعة الأبناء والجلوس والحديث معهم عن قرب بصورة دائمة لكثرة الارتباطات والعلاقات وازدحام الأشغال.
4ـ وهذا السبب يمكن أن يلحق بالسبب السابق، ألا وهو أصحاب السوء وهم من أهم أسباب انتشار المخدرات؛ فيندفع الشاب حيال ضغوط الأصحاب وإغراءاتهم إلى أن يجرب بعض الخمور والمخدرات، كما يدفعه إلى ذلك عوامل عديدة من بينها: البحث عن اللذة والعابرة، وتجريب الجديد، وإشباع الفضول وحب المغامرة، وإثارة التقليد.
ومن المعلوم ما للقرناء من تأثير قوي على الإنسان، سواء السلبي منه والإيجابي، فإن دائرة التأثير ستتناول الصاحب سواءً رغب أم لم يرغب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".(رواه أبوداود والترمذي عن أبي هريرة وحسنه الألباني)
5ـ إن هناك سبباً لا يمكن إغفاله؛ لأنه له دور خطير في ترويج المخدرات وإبراز أساليب نقلها وانتشارها وتناولها، ألا وهو وسائل الإعلام.. يقول أحد الأطباء المختصين بعلاج الإدمان: "قد ظهر واضحاً لنا أن من أهم عوامل إقبال الشباب على إدمان المخدرات، هو التقليد الأعمى لما يشاهدونه في الأفلام سواءً كانوا في العالم الغربي أم في العالم العربي، وما يشيعونه من تقليعات يقلدها الشاب".
ومن ذلك ظهور الممثل وهو يتعاطى المخدرات - خاصة إذا كان هو بطل القصة - فإن هذا يعد من أنجح أساليب دفع الأطفال والشباب إلى تقليدهم، وكذلك ما يصور في تلك الأفلام من أساليب ووسائل ماكرة لترويجه ونقله من مكان إلى آخر، وطرق بيعه وشرائه والحصول عليه، ونحو ذلك مما يسهل عملية التطبيق ويفتح أبواباً لحركة الترويج.
6ـ ومن الأسباب المساعدة على انتشار المخدرات: الفراغ والملل الذي يرجع إلى عدم معرفة الهدف الصحيح والغاية من الحياة، وعدم وجود التصور الواضح للواجبات والمسؤوليات، ويعد الفراغ ووفرة الوقت لدى الناس ـ والشباب بصفة خاصة ـ مشكلة من المشاكل الكبيرة التي يعانون منها، فإن كثيراً من مظاهر الانحرافات السلوكية المختلفة ـ ومنها المخدرات ـ كان الفراغ من أهم الأسباب الدافعة إليها، إذ أن وفرة الوقت دون عمل يوقع صاحبه في أسر الوساوس الشيطانية والأفكار والهواجس النفسية الخطيرة مما لا يمكن أن يحصل له أثناء الانشغال بعمل ما.
وتزداد ساعات الفراغ عند الشباب خاصة لتصل إلى أكثر من 7 ساعات في الإجازات، وهذا الأمر يدعو لمزيد من القلق والحذر وأخذ الحيطة من الأخطار التي يمكن أن يقع فيها هذا الشباب المندفع دون هدف أو تخطيط أو برمجة.
فتظل مشكلة استثمار أوقات الفراغ لشبابنا، بطرق ووسائل وأساليب إيجابية هدفاً يجب أن يسعى الجميع إلى تحقيقه، وذلك من أبرز الطرق الوقائية والفعالة في مجال مكافحة تعاطي المخدرات، كما نوصي الآباء بالاهتمام بإشغال وقت فراغ أبنائهم من خلال التفرغ للجلوس والحديث معهم وربطهم بالنشاطات العلمية والبرامج الثقافية والرياضية المختلفة، ووضع هذه النشاطات في جداول زمنية منظمة تكفل شغل كامل يوم الابن دون ثغرات.
إذن ما هو الحل؟
بعد هذا الاستعراض لمشكلة المخدرات من المنظور الشرعي وأسباب انتشارها يتساءل كل عاقل غيور ما الحل إذن؟
نقول: الإسلام هو الحل الوحيد الذي يقدم حلاً شمولياً جذرياً لهذه المشاكل؛ ذلك لأن الإسلام يعالج المشكلة من جذورها، وأهم جذورها هو المستهلك، وهو الشخص القابل لتناول المخدرات، الشخص الذي ضعف إيمانه، وأمام أي مشكلة يجد نفسه مرتاعاً قلقاً مضطرباً يبحث عن مهرب في جرعة يتناولها تنسيه لحظتها همومه، ثم يعقبها بعد ذلك هموم وحسرات لا تنتهي إلى الأبد.
إن تطبيق الإسلام الصحيح في كافة مناحي الحياة يشمل الفرد والمجتمع، يؤدي إلى تجفيف منابع الشر والتشتيت، فالمجتمع الإسلامي الحقيقي مجتمع مترابط متكافل يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، وهو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
إن تطبيق الإسلام بإيمانياته وسلوكياته، يعطي المؤمن شعوراً بالرضا والسعادة؛ لأنه على صلة بالله في ليله ويومه، إن أصابته ضراء صبر وإن أصابته نعماء شكر، وأمره كله خير، إذا نزلت عليه مصيبة لجأ إلى مولاه وبارئه متوكلاً عليه، معتمداً على كرمه، فهو في سعادة حتى يقول قائلهم وهو في تلك اللحظات الروحية: "لو كان أهل الجنة عيشهم كعيشي؛ إنهم إذن لفي عيش طيب".!
كل ذلك ممكن أن يصيغه الإسلام الصحيح والإيمان العميق، بل أكثر من ذلك، فهو الحل لمئات المشاكل والانحرافات الأخرى، ولكن بشرط واحد: أن ينفذ الإسلام على الوجه الصحيح جملة واحدة، ولا يجزأ فيقبل منه جزء ويترك جزء ويطبق أمر ويترك آخر، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: من الآية208). أي في الإسلام المأمور به كله بجزئياته وتفضيلاته.
لنستمع لهذه القصة التي يظهر فيها قوة الاستجابة عند المؤمن دون الحاجة إلى رقيب، فالرقيب في النفس، والله حاضر شاهد.. أخرج الأمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي دجانة، ومعاذ بن جبل، وسهل بن ياء حتى مالت رؤوسهم من خليط بر وتمر، فسمعت مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90). وفي موقف آخر: فعندما سمعوا الأمر {فهل أنتم منتهون} قالوا انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.
تلك هي ثمرة الإيمان، ولا بد أولاً من غرس بذرة الإيمان حتى نقطف ثمارها، ولن يجدينا كثيراَ ـ إذا فقدنا الإيمان الرادع ـ أن نوضح بالأرقام والعلوم والطب وكل وسائل الإعلام أضرار الخمر والمخدرات، لن يجدينا ذلك مع فقد الإيمان، من ذلك أيضاً الشقاء والتعاسة الذي تعيشه الإنسانية اليوم لا حل آخر لها غير الإسلام وتحقيق اللجأ إليه وتوثيق الصلة به سبحانه قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (طـه:126) .
ولا نقول كقول القائل: تلك أمة قد خلت؛ بل إن هذه المواقف الإيمانية والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم قائمة ماثلة أمام أعيننا في هذا العصر، بل قد تصل إلى المعجزات الباهرة التي أعجزت جميع القوى البشرية، ومن ذلك تحول بعض نزلاء السجون الأمريكيين ومدمني المخدرات إلى الطهارة والنقاء بعد أن قذف الله في قلوبهم نور الإيمان ودخلوا في دين الله أفواجاً حتى شكلوا بأحد سجون واشنطن نسبة 23% من مجموع المسجونين.
ثم لا يفوتني هنا أن أركز على دور البيت كحل وقائي دون انغماس الأبناء في الرذائل والانحرافات المختلفة، فالواجب على الآباء والأمهات أن يكونوا قائمين على البيوت بالمتابعة والمراقبة مغلقين دون أبنائهم أبواب الفساد، فوجودهم الصالح في البيوت وإيجاد المناخ الإسلامي أعظم سبب للإصلاح ـ بعد توفيق الله - كما أن غيابهم وذهاب سلطانهم في البيوت من أعظم أسباب الانحراف والتشتت.
إن مسؤوليتهم في هذا الجانب تتمثل في توعية الأبناء بأخطار المخدرات، وطبيعة انتشارها، وجلوسهم معهم من وقت لآخر ليزودوهم بالمعلومات التي تبرز هذا الأمر ونهاياته التعيسة وتزويدهم بالإحصائيات المروعة في ذلك، وقفل كل باب يمكن أن يؤدي إلى تعاطي المخدرات وأهمه: رفقاء السوء، والأفلام التي تمجد وتعظم متعاطي المخدرات، وحماية الشباب من السفر لبلاد الخارج حيث تنتشر المخدرات والمسكرات بصورة أكبر وعلى جميع المستويات، هذا ما يمكن إجماله في أسباب الوقاية وحلول العلاج من هذه السموم القاتلة.
سائلين المولى الكريم أن يقينا وجميع المسلمين من شرورها، ويعصمنا من كل سوء، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
إن معالجة الإسلام لموضوع الخمر والمخدرات كانت عبارة عن مخطط محكم، برنامج عمل طويل الأمد، منح لنفسه ما يكفي من الوقت، وجند لإنجازه وإنجاحه مختلف الوسائل المتوفرة، فاتحدت إلى جانبه الإرادات الفردية والاجتماعية والتشريعية والسياسية، تدعمه وتسانده، وتسهر على تنفيذه، وتحرص على إنجاحه، ومن أهم تلك الجوانب التي شملها هذا المخطط ما يلي :
الجانب الفردي : حيث وقع التركيز في المعالجة والوقاية بالدرجة الأولى على الأفراد، على الإنسان، على تغيير ما بنفسه من أجل تغيير حاله وواقعه، ولذلك كانت الركيزة الأولى هي بناء الأساس العقدي النفسي عند الإنسان، ودعم مناعته النفسية عن طريق تقوية إيمانه، وتعزيز تشبثه بتعاليم الإسلام، وتحسيسه بأهمية الاندماج في مجتمعه المسلم، وبضرورة الحفاظ على نفسه وصحته من الهلاك.
وكان أسلوب المعالجة متنوعاً فيه ترغيب وترهيب، وفيه وعد ووعيد، وفيه نصح وإرشاد وتوجيه، وفيه أيضاً تلطف بالعاصي المخالف وتحفيز له على التوبة إلى الله والرجوع إلى الحق وإلى أحضان المجتمع ليتخلص بسرعة من ذنبه ومن آثار زلته، أسلوب يخاطب العقل ويقنعه بالحجة والبرهان، ويستميل العاطفة بالرفق وبالتي هي أحسن.
الجانب الاجتماعي : من أهم عوامل نجاح هذا المنهج أن توفرت له "الإرادة الاجتماعية" أي اتفاق الجميع على قبوله واتباعه، ومساهمتهم الفعالة في تنفيذه وتطبيقه. وقد تجلى ذلك في الاستجابة الفورية لتطبيق أمر الله ورسوله في تحريم تعاطي الخمر والتعامل بها، وفي إتلافها وإزالة آثارها من الحياة الاجتماعية للمسلمين، كما تتجلى في تعزيز حملة مكافحة الخمر عن طريق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهو ما ساعد على تقوية المناعة الاجتماعية ضد أي مخالفة لأوامر الله في الخمر والمسكرات.
الجانب التشريعي والتنفيذي : كانت الإرادة التشريعية الإسلامية واضحة صريحة حازمة في تحريم الخمر والمخدرات، وهو ما يظهر من خلال مجموعة النصوص (آيات قرآنية، أحاديث نبوية، فتاوى فقهية) التي صدرت بشأن تعاطي الخمر والمخدرات، والمتاجرة فيها، والتعامل بها، والتحذير من أضرارها ومخاطرها. وإلى جانب هذه الإرادة التشريعية، كانت هناك الإرادة السياسية التنفيذية، بخاصة في عهد النبوة والخلافة الراشدة، حيث أظهر الرسول صلى الله عليه و سلم وصحابته الكرام حزماً وعزماً أكيدين في تنفيذ حكم الله في الخمر والمسكرات، وتخليص المسلمين والأمة الإسلامية منها ومن آثارها المدمرة.
المفسدات الحسية:
وهي التي تؤدي إلى الإخلال بالعقل، بحيث يصبح الإنسان كالمجنون، وهذه المفسدات هي: الخمور والمخدرات وما شابهها.
وقد جاء تحريم ذلك في كتاب الله تعالى في قوله: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ} (المائدة:91).
كما ورد تحريمها في سنة النبي صلى الله عليه وسلم، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: "كل مسكر خمر وكل مسكر حرام. ومن شرب الخمر في الدنيا فمات، وهو يدمنها لم يتب، لم يشربها في الآخرة" (رواه مسلم). وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن". (متفق عليه)
أي إنه حين يشربها يرتفع عنه إيمانه، كما قال بذلك بعض أهل العلم. وكذلك لعن كل من يمت للخمر بصلة في قوله صلى الله عليه وسلم: "إن الله عز وجل لعن الخمر وعاصرها ومعتصرها وشاربها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وساقيها ومسقيها". (صحيح الجامع).
كما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كل ذريعة وسبب قد يؤدي إلى تناولها، وذلك من التدابير الوقائية، فنهى عن الجلوس على مائدة يدار فيها الخمر، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: يا أيها الناس: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يقعدن على مائدة يدار عليها الخمر".
وكذلك حرم التداوي بالخمر، فقال صلى الله عليه وسلم: "إنه ليس بدواء ، ولكنه داء" (صحيح الجامع) وذلك تحرزاً من الاعتياد عليها من مبدأ التداوي بها. لذلك قال: "ما أسكر كثيره فقليله حرام".(صحيح الجامع)
وقد أجمع الفقهاء الذين ظهرت في عصورهم هذه الآفة على تحريمها، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "وأما الحشيشة الملعونة المسكرة، فهي بمنزلة غيرها من المسكرات، والمسكر منها حرام باتفاق العلماء بل كل ما يزيل العقل فإنه يحرم أكله ولو لم يكن مسكراً". (مجموع الفتاوى ج 34 ص 204).
ولا يشك عاقل في ضرر المسكرات والمخدرات على العقل وإفسادها له ، فقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه "الخمر ما خامر العقل" أي غطاه.
وتغطية العقل تؤدي إلى فساد تصرف الإنسان؛ فيخرج بأفعاله عن المألوف؛ وكلامه عن المعروف؛ فالخمر مفتاح كل شر كما قال بذلك النبي صلى الله عليه وسلم "لا تشربوا الخمر فإنها مفتاح كل شر" (صحيح الجامع).
فشرها وشؤمها لا يقتصر على صاحبها فحسب، بل يتعدى إلى الغير، ويجر متناولها إلى ارتكاب منكرات ومفاسد كثيرة في الناس، فهي أعظم أسباب التعدي على الضرورات الخمس، التي جاءت الشريعة بحمايتها وحفظها، فكم حصل بسببها سفك للدماء المحرمة، وانتهاك للأعراض وإتلاف للأموال، وإفساد للعقول وتفويت لمصالح الدين وتضييع لأمانات الحقوق والمعاملات التي شملها مفهوم الأمانة الواسع الذي هو كل ما في عهدة الإنسان من أمور حسية ومعنوية من حقوق ومعاملات ونعم وغيرها.
ومن المناسب أن نذكر هنا قصة وردت في السنة تكشف تعدي خطر الخمر على الحقوق والضرورات.. فقد روى النسائي بسنده عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال "اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث، إنه كان رجل ممن خلا قبلكم تعبد، فعلقته - أي أحبته وعشقته - امرأة غوية، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له: إنا ندعوك للشهادة، فانطلق مع جاريتها فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية ـ أي إناء خمر- فقالت: إني والله ما دعوتك للشهادة، ولكن دعوتك لتقع علي، أو تشرب من هذه الخمر كأساً، أو تقتل هذا الغلام، فقال: فاسقيني من هذا الخمر كأساً، فقال: زيدوني، فلم يدم حتى وقع عليها، وقتل النفس.. فاجتنبوا الخمر؛ فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلا يوشك أن يخرج أحدهما الآخر".
وقد بينت إحصائيات الأمن العالمية أن الصلة وثيقة بين السُكْر وبين القتل، والضرب والجرح ، الجرائم الجنسية والحريق والجرائم غير العمدية كحوادث السيارات مثلاً.
ومن سلبيات المخدرات الشنيعة أنها سبب في تشتيت الحياة العائلية؛ فتصبح حياة المؤمن الزوجية جحيماً لا يطاق، فهو مهمل لبيته وزوجته وأولاده مهين لهم، تزداد عنده حالة الشك والريبة في كل من حوله.
والآن لماذا تعاطي هذه القنابل الذرية المدمرة للذات والعقل والروح؟ وقد بينت الإحصائيات أن أكثر من دمرت هذه القنابل فئة الشباب الذين هم قوة الشعوب وطاقتها حيث يبلغ نسبتهم حوالي70% من مجموع أعداد المدمنين.
ومما يدفع إلى تعاطيها - وخاصة فئة الشباب - عدة أسباب رئيسية نستطيع أن نجملها في أمور منها:
1ـ اتفق المصلحون على أن ضعف الإيمان وغياب الوازع الديني سبب رئيسي لانتشار المخدرات، وذلك الأمر يعود إلى ضعف التربية الإيمانية وغياب التوعية الدينية من قبل الآباء لأبنائهم وإهمال إنشاء الحصانة العقيدية والفكرية التي تغرس في قلب الناشئ معرفة الله تعالى ومراقبته واستشعار معيته وعظمته، حتى تتعلق قلوبهم وأرواحهم بالله تعالى خوفاً ورجاءً؛ فتكون جميع حركاتهم وسكناتهم السرية والعلنية موافقة لمنهج الله تعالى لإحساسهم الدائم بمراقبته وإحصائه لأعمالهم وأنهم مجزيون بها عائدة عليهم تبعتها كما قال تعالى: {لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى} (النجم: من الآية31). وقوله تعالى: {وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى* ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى} (النجم:41) .
والمواصلة معهم على المنهج التربوي الإيماني والتركيز عليه، وبهذا المنهج تربى الطفل في عصر النبوة تربية راسخة، جعلته قوة فعالة ثابتة، وروحاً تقية نقية، في أمثلة واقعية تفوق الخيال، فلا يكاد يفرق بين الرجل الكبير والطفل الصغير؛ فالكل كبار بأفعالهم الحميدة.
2- الانفتاح المادي مقابل التوسع الإعلامي أحدث تيارات من الفتن والمغريات الجارفة، قل صبر فئات كثير من الناس أمامها، فانغمسوا فيها، ونسوا كثيراً مما ذكروا به، وغفلوا عن أوامر ربهم، وما رتب عليها من الجزاء، فغلبت الشهوات وضعف الدين، وتنكب كثير من المسلمين عن صراط الله المستقيم.
3ـ ومن أسباب انتشار المخدرات: تفكك المجتمع والروابط الأسرية وعدم وجود الروابط الاجتماعية المتنوعة، إذ إن الحياة العصرية الحديثة اتسمت بالجري الدائم وراء المزيد وتحقيق المصالح الشخصية، الأب يريد أن يزيد دخله ويرفع مدخراته، والأم تسعى لإبراز وجودها الاجتماعي- وما يتطلبه ذلك من مظاهر- وكذلك استغلال دخلها المادي، والأبناء لهم مطالب في مجاراة أترابهم وأبناء عصرهم الذين بهرهم بريق الحضارة الغربية، بما تحمله من ضلال وفساد، فكان من جراء ذلك التقليد الأعمى، والتطبيق لما يرد عليهم من هناك تحت مسميات وشعارات "الموضة والترفيه" وأحياناً باسم التقدم والتطور وأوهام الحرية المزعومة، فتشكل من ذلك كله ضعف الترابط الأسري، واتساع الفجوة بين الآباء والأبناء وصعوبة التفاهم بينهم، فانتقل هذا التيار المدمر من بلاد الغرب إلى البلاد العربية والإسلامية، فأدى إلى اضطرابات نفسية وقلاقل اجتماعية وجدب عاطفي، دفع الكثير من الشباب إلى تناول المسكرات والمخدرات كحل ومهرب من هذه الضغوط.
وتحت هذا السبب أيضاً، فإن الشاب قد يصل إلى مرحلة متطورة من الإدمان دون أن يشعر أفراد البيت ببوادر تناوله للمخدرات الواضحة، وما ذلك إلا لغياب دور الرقيب من قبل الآباء والأمهات وإهمال متابعة الأبناء والجلوس والحديث معهم عن قرب بصورة دائمة لكثرة الارتباطات والعلاقات وازدحام الأشغال.
4ـ وهذا السبب يمكن أن يلحق بالسبب السابق، ألا وهو أصحاب السوء وهم من أهم أسباب انتشار المخدرات؛ فيندفع الشاب حيال ضغوط الأصحاب وإغراءاتهم إلى أن يجرب بعض الخمور والمخدرات، كما يدفعه إلى ذلك عوامل عديدة من بينها: البحث عن اللذة والعابرة، وتجريب الجديد، وإشباع الفضول وحب المغامرة، وإثارة التقليد.
ومن المعلوم ما للقرناء من تأثير قوي على الإنسان، سواء السلبي منه والإيجابي، فإن دائرة التأثير ستتناول الصاحب سواءً رغب أم لم يرغب، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم "المرء على دين خليله فلينظر أحدكم من يخالل".(رواه أبوداود والترمذي عن أبي هريرة وحسنه الألباني)
5ـ إن هناك سبباً لا يمكن إغفاله؛ لأنه له دور خطير في ترويج المخدرات وإبراز أساليب نقلها وانتشارها وتناولها، ألا وهو وسائل الإعلام.. يقول أحد الأطباء المختصين بعلاج الإدمان: "قد ظهر واضحاً لنا أن من أهم عوامل إقبال الشباب على إدمان المخدرات، هو التقليد الأعمى لما يشاهدونه في الأفلام سواءً كانوا في العالم الغربي أم في العالم العربي، وما يشيعونه من تقليعات يقلدها الشاب".
ومن ذلك ظهور الممثل وهو يتعاطى المخدرات - خاصة إذا كان هو بطل القصة - فإن هذا يعد من أنجح أساليب دفع الأطفال والشباب إلى تقليدهم، وكذلك ما يصور في تلك الأفلام من أساليب ووسائل ماكرة لترويجه ونقله من مكان إلى آخر، وطرق بيعه وشرائه والحصول عليه، ونحو ذلك مما يسهل عملية التطبيق ويفتح أبواباً لحركة الترويج.
6ـ ومن الأسباب المساعدة على انتشار المخدرات: الفراغ والملل الذي يرجع إلى عدم معرفة الهدف الصحيح والغاية من الحياة، وعدم وجود التصور الواضح للواجبات والمسؤوليات، ويعد الفراغ ووفرة الوقت لدى الناس ـ والشباب بصفة خاصة ـ مشكلة من المشاكل الكبيرة التي يعانون منها، فإن كثيراً من مظاهر الانحرافات السلوكية المختلفة ـ ومنها المخدرات ـ كان الفراغ من أهم الأسباب الدافعة إليها، إذ أن وفرة الوقت دون عمل يوقع صاحبه في أسر الوساوس الشيطانية والأفكار والهواجس النفسية الخطيرة مما لا يمكن أن يحصل له أثناء الانشغال بعمل ما.
وتزداد ساعات الفراغ عند الشباب خاصة لتصل إلى أكثر من 7 ساعات في الإجازات، وهذا الأمر يدعو لمزيد من القلق والحذر وأخذ الحيطة من الأخطار التي يمكن أن يقع فيها هذا الشباب المندفع دون هدف أو تخطيط أو برمجة.
فتظل مشكلة استثمار أوقات الفراغ لشبابنا، بطرق ووسائل وأساليب إيجابية هدفاً يجب أن يسعى الجميع إلى تحقيقه، وذلك من أبرز الطرق الوقائية والفعالة في مجال مكافحة تعاطي المخدرات، كما نوصي الآباء بالاهتمام بإشغال وقت فراغ أبنائهم من خلال التفرغ للجلوس والحديث معهم وربطهم بالنشاطات العلمية والبرامج الثقافية والرياضية المختلفة، ووضع هذه النشاطات في جداول زمنية منظمة تكفل شغل كامل يوم الابن دون ثغرات.
إذن ما هو الحل؟
بعد هذا الاستعراض لمشكلة المخدرات من المنظور الشرعي وأسباب انتشارها يتساءل كل عاقل غيور ما الحل إذن؟
نقول: الإسلام هو الحل الوحيد الذي يقدم حلاً شمولياً جذرياً لهذه المشاكل؛ ذلك لأن الإسلام يعالج المشكلة من جذورها، وأهم جذورها هو المستهلك، وهو الشخص القابل لتناول المخدرات، الشخص الذي ضعف إيمانه، وأمام أي مشكلة يجد نفسه مرتاعاً قلقاً مضطرباً يبحث عن مهرب في جرعة يتناولها تنسيه لحظتها همومه، ثم يعقبها بعد ذلك هموم وحسرات لا تنتهي إلى الأبد.
إن تطبيق الإسلام الصحيح في كافة مناحي الحياة يشمل الفرد والمجتمع، يؤدي إلى تجفيف منابع الشر والتشتيت، فالمجتمع الإسلامي الحقيقي مجتمع مترابط متكافل يحب المؤمن لأخيه ما يحب لنفسه، وهو كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً.
إن تطبيق الإسلام بإيمانياته وسلوكياته، يعطي المؤمن شعوراً بالرضا والسعادة؛ لأنه على صلة بالله في ليله ويومه، إن أصابته ضراء صبر وإن أصابته نعماء شكر، وأمره كله خير، إذا نزلت عليه مصيبة لجأ إلى مولاه وبارئه متوكلاً عليه، معتمداً على كرمه، فهو في سعادة حتى يقول قائلهم وهو في تلك اللحظات الروحية: "لو كان أهل الجنة عيشهم كعيشي؛ إنهم إذن لفي عيش طيب".!
كل ذلك ممكن أن يصيغه الإسلام الصحيح والإيمان العميق، بل أكثر من ذلك، فهو الحل لمئات المشاكل والانحرافات الأخرى، ولكن بشرط واحد: أن ينفذ الإسلام على الوجه الصحيح جملة واحدة، ولا يجزأ فيقبل منه جزء ويترك جزء ويطبق أمر ويترك آخر، وقد قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً} (البقرة: من الآية208). أي في الإسلام المأمور به كله بجزئياته وتفضيلاته.
لنستمع لهذه القصة التي يظهر فيها قوة الاستجابة عند المؤمن دون الحاجة إلى رقيب، فالرقيب في النفس، والله حاضر شاهد.. أخرج الأمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال: بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة، وأبي عبيدة بن الجراح، وأبي دجانة، ومعاذ بن جبل، وسهل بن ياء حتى مالت رؤوسهم من خليط بر وتمر، فسمعت مناد ينادي: ألا إن الخمر قد حرمت. قال: فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب، وكسرنا القلال، وتوضأ بعضنا واغتسل بعضنا، وأصبنا من طيب أم سليم، ثم خرجنا إلى المسجد، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (المائدة:90). وفي موقف آخر: فعندما سمعوا الأمر {فهل أنتم منتهون} قالوا انتهينا ربنا، انتهينا ربنا.
تلك هي ثمرة الإيمان، ولا بد أولاً من غرس بذرة الإيمان حتى نقطف ثمارها، ولن يجدينا كثيراَ ـ إذا فقدنا الإيمان الرادع ـ أن نوضح بالأرقام والعلوم والطب وكل وسائل الإعلام أضرار الخمر والمخدرات، لن يجدينا ذلك مع فقد الإيمان، من ذلك أيضاً الشقاء والتعاسة الذي تعيشه الإنسانية اليوم لا حل آخر لها غير الإسلام وتحقيق اللجأ إليه وتوثيق الصلة به سبحانه قال تعالى: {وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى*قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيراً*قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى} (طـه:126) .
ولا نقول كقول القائل: تلك أمة قد خلت؛ بل إن هذه المواقف الإيمانية والاستجابة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم قائمة ماثلة أمام أعيننا في هذا العصر، بل قد تصل إلى المعجزات الباهرة التي أعجزت جميع القوى البشرية، ومن ذلك تحول بعض نزلاء السجون الأمريكيين ومدمني المخدرات إلى الطهارة والنقاء بعد أن قذف الله في قلوبهم نور الإيمان ودخلوا في دين الله أفواجاً حتى شكلوا بأحد سجون واشنطن نسبة 23% من مجموع المسجونين.
ثم لا يفوتني هنا أن أركز على دور البيت كحل وقائي دون انغماس الأبناء في الرذائل والانحرافات المختلفة، فالواجب على الآباء والأمهات أن يكونوا قائمين على البيوت بالمتابعة والمراقبة مغلقين دون أبنائهم أبواب الفساد، فوجودهم الصالح في البيوت وإيجاد المناخ الإسلامي أعظم سبب للإصلاح ـ بعد توفيق الله - كما أن غيابهم وذهاب سلطانهم في البيوت من أعظم أسباب الانحراف والتشتت.
إن مسؤوليتهم في هذا الجانب تتمثل في توعية الأبناء بأخطار المخدرات، وطبيعة انتشارها، وجلوسهم معهم من وقت لآخر ليزودوهم بالمعلومات التي تبرز هذا الأمر ونهاياته التعيسة وتزويدهم بالإحصائيات المروعة في ذلك، وقفل كل باب يمكن أن يؤدي إلى تعاطي المخدرات وأهمه: رفقاء السوء، والأفلام التي تمجد وتعظم متعاطي المخدرات، وحماية الشباب من السفر لبلاد الخارج حيث تنتشر المخدرات والمسكرات بصورة أكبر وعلى جميع المستويات، هذا ما يمكن إجماله في أسباب الوقاية وحلول العلاج من هذه السموم القاتلة.
سائلين المولى الكريم أن يقينا وجميع المسلمين من شرورها، ويعصمنا من كل سوء، والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.