من خلال التسميات الكثيرة التي أدرجناها حتى الآن: أطفال محرومون، مهمشون، مهملون اجتماعيا، غير مندمجين... يبدو جليا أننا نقصد بدراستنا كل الأطفال من أي سن كانوا ـ قبل الرشد ـ يعانون من الحرمان أو عدم الاستقرار النفسي أو العائلي أو الاجتماعي أو الاقتصادي أو السياسي... .
فعلامات التكَيُّف أو الاندماج تختلف حسب المرحلة التي يجتازها الصغير: إذ تأخذ شكل إقبال على الحياة بما يناسبها عادة، كالإقبال على اللعب والتعلم، عدم رفض الالتزام اليومي بالتمدرس، الاستمرار فيه، نمو التفكير والذكاء، التجاوب، تقبل نواميس الحياة الاجتماعية... .
بالمقابل فالتهميش يأخذ شكل حرمان من الطفولة ومن مباهجها، حرمان من التربية والتمدرس أو حرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة... ثم يأخذ عدم التكيف عدة أبعاد تختلف بحسب السن والجنس... إذ قد يترجم إلى عزوف عن الدراسة أو رسوب، أو هروب من المدرسة لينتهي الأمر في جل الحالات إلى انقطاع تام عنها، وقد يأخذ شكل عصيان لأوامر الأسرة أو الأشخاص المسؤولين عن الطفل... ويصل التمرد مداه عندما يوجه نحو النفس أو نحو المجتمع بكامله، في صورة تعاط للمخدرات، أو عنف ضد الأطفال الآخرين، أو سطو وانضمام لعصابات إجرامية، أو ممارسة الدعارة... ومع التقدم في السن يتقن الطفل عديدا من وسائل الإجرام فيرشَّح لأن يصبح جانحا محترفا، إذا لم يجد منقذا في أي مرحلة من المراحل الصعبة التي يجتازها.
من ثم فإننا سنقوم بحصر فئات الأطفال المهمشين في المجتمع نتيجة أسباب مختلفة، ليقيننا بأنها الطريقة المثلى للتعريف بالطفل المهمش. ونحدد هذه الفئات فيما يلي: الأطفال الأيتام، الفقراء، المعوقون، غير المتمدرسين، المشردون، النازحون، اللاجئون، الممزقون عائليا، الأطفال غير الشرعيين، المتكفل بهم، الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني...(أطفال الأنابيب).
أولا : الأطفال الأيتام
نقصد بالطفل اليتيم كل طفل فَقَدَ أحد والديه أو كليهما. والمجتمعات الإسلامية تعُج بالأيتام وأعدادهم في تزايد مستمر بسبب ارتفاع أسباب الوفاة التي تمس البالغين بالخصوص، بعد أن انضافت عوامل حديثة للعوامل التقليدية لوفيات الكبار، كما سنبينه.
ومن المؤكد أن الطفل اليتيم كان، في ظل المجتمعات الإسلامية التقليدية، يجد السند عادة في أفراد عائلته. أما مع تحولات الحياة الاجتماعية، فحصل تضييق للأسرة وتباعد بين الأقارب، حتى أضحى مستحيلا تخيل وجود متكفل بالأيتام من بين أولئك.
ومع أن الملاجئ تحاول التخفيف من حجم الأزمة إلا أنها لا تستوعب جميع الأيتام ولا تشبع كل حاجاتهم، كما أنها لا تغطي كافة المناطق. بهذه الطريقة أضحى مصير اليتيم مهددا، بحيث لا يجد في حالات كثيرة عائلا، أو لا يجد مأوى سوى الشارع، بكل ما يرافقه من مخاطر. من ثم أضحى اليُتم أحد عوامل التهميش والإهمال وربما التشرد.
ثانيا : الأطفال الفقراء
الفقرآفة بغيضة ومنتشرة بجل الأقطار الإسلامية. وهي ظاهرة تستوي فيها الدول التي انتهجت الرأسمالية وتلك التي اختارت الاشتراكية. مما يدل على أن العيب لا يكمن في نظام أو آخر بقدر ما يكمن في سياسات التنمية المنتهجة حتى الآن بجل الأقطار. وأن التفاوت المهول بين الفئات الاجتماعية قد أفرز شرائح، ما تزال في تزايد مستمر، من الفقراء والذين يعيشون تحت عتبة الفقر.
وغني عن البيان أن أكثر المتضررين من الفقر هم الأطفال، الذين يحرمون بسببه من أبسط الحقوق والحماية. فيضطرون عادة إما لمغادرة المدارس مبكرا أو لعدم ولوجها من الأساس. كما يضطرون لبدء العمل وهم في سن اللعب وعودهم ما يزال غضًّا طرياً، أو يضطرون للتسول والتشرد والجنوح... ولعل هذا يكفي لبيان الأبعاد الاجتماعية ـ الاقتصادية للفقر.
ومن الثابت أن معظم الأطفال المحالين على العدالة ينتمون للفئات الاجتماعية الأقل حظا، وأن الأفعال المرتكبة من قبلهم هي في الغالب أعمال سطو أو سرقات، الغاية منها الحصول على مصدر للعيش، بدافع الفاقة.
ثالثا : الأطفال المعاقون
>إن لفظ معاق يدل على كل شخص لا يملك القدرة على أن يضطلع بمفرده بكامل أو بعض متطلبات حياة شخصية أو اجتماعية طبيعية. وذلك بسبب نقص خلقي أو غيره، في قدرته الجسمية أو الذهنية<. هذا التعريف تبنته هيئة الأمم المتحدة في إعلان 1969م لحقوق الطفل المعاق (م1).
فالإعاقة قد تكون عقلية أو جسدية أو حسية كما تكون ولادية أو مكتسبة، ولكل منها أسبابها. والنتيجة أن الإعاقة تحد كثيرا من طاقات الطفل وتحُول دون اكتمال خِلقته أو اكتمال تكوينه الجسدي أو العقلي أو النفسي. فينتهي به المطاف للتهميش والحرمان من حظوظ الطفل السوي المتمتع بالظروف الطبيعية للنمو والرفاه و الاندماج والإنتاج....
رابعا : الأطفال غير المتمدرسين
مما يؤسف له أن العالم الإسلامي، كما سنؤكد بالأرقام، يعاني من أعلى نسب الأمية، مقارنة مع باقي دول العالم الثالث. وما زال حتى الآن عديد من أطفاله البالغين سن التمدرس لا يلجون المدارس من الأساس أو يغادرونها بعد وقت وجيز جدا، خاصة بالبوادي والمناطق النائية، ولاسيما الإناث.
وإذا كان الكل يتفق على أن المجتمعات الحالية هي بصدد الانتقال من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة العلم والتكنولوجيا، فالنتيجة الحتمية أن كل شخص لم يتسلح بالعلم مآله أن يعيش على هامش الحياة طوال عمره. ومعلوم كذلك أن الطفل المتمدرس يقضي جل أوقاته محروسا داخل المدرسة، مما يحصنه ضد الارتماء في أحضان الشوارع بكل ما يكتنفها من مخاطر.
ومن المؤكد أيضا أن المدرسة تُؤَمِّن للطفل نصيبا من التربية و التعليم يمكنانه من الفهم والإدراك والاندماج ومواجهة المستقبل، ويحميانه من الانحراف نسبيا. كما أن برامج التعليم عادة ما تُرفَق بأنشطة موازية يُفرِغ فيها الطفل طاقاته المشحونة، فيتخلص بهذه الوسيلة من شرور الكبت والضغط النفسي الناتج عن رفض عديد من النواميس أو عن صراع الأجيال.
خامسا : الأطفال المشردون
التشرد ظاهرة حديثة أفرزها التقدم الصناعي و ما رافقه من تحولات اجتماعية وتمركز في المدن الكبرى ونشوء أحياء عشوائية وبيئات غير سليمة، ومن أزمات اقتصادية، كالبطالة وانخفاض الدخل... .
وإذا كانت الدول المتقدمة قد استيقظت مبكرا على ظاهرة التشرد وحاولت معالجتها بكافة الوسائل، فمشكلة المجتمعات الإسلامية تبدو أكثر خطورة، لكونها ما زالت تنظر للمشرَّد بلامسؤولية ولا وعي أو إدراك لخطورته على نفسه وعلى المجتمع، وبدون تفهم لأوضاعه.
والطفل المشرد لا تكفي في حقه عبارات >مهمل أو مهمش أو غير سوي أو غير متكيف<، لأن وضعه في الواقع أخطر من ذلك بكثير. فهو يشكل في البداية خطرا على نفسه ومستقبله، وعندما يزداد إتقانه للجنوح والإجرام يتحول إلى خطر على المجتمع ككل. ومعلوم أن التشرد يرافقه عادة التمرد على الضوابط الاجتماعية والقانونية. وهو يقترن في الأذهان بالتسول وتعاطي المخدرات والانحراف وتعلُّم وسائل الإجرام المحترَف... .
سادسا : الأطفال النازحون
إن التشرد قد يكون من نتائج النزوح أيضا، إنما هذا الأخير له آثار أخرى بنفس الخطورة، لذلك يجب إفراد حيز له. والنزوح أو الهجرة قد يكون داخليا، انطلاقا من نقطة معينة، في اتجاه نقطة أخرى بحثا عن الاستقرار و الطمأنينة و مصدر الرزق، وقد يكون من دولة لأخرى. وأسبابه مختلفة قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية:... .
فالمثال التقليدي للأسباب الاقتصادية ـ الاجتماعية، الهجرة من القرى في اتجاه المدن. وهي الظاهرة التي لا تسلم منها نقطة في العالم، إنما خطرها يزداد حدة في الدول النامية عنه في الدول المتقدمة. ومن المعلوم أن الطفل يعاني أكثر من غيره عند تغيير محيطه الاجتماعي.
وتأخذ مظاهر عدم التكيف شكل عدم الاندماج في الوسط الحضري، أو صورة انبهار أو رفض لنمط الحياة الجديد أو صعوبة تقبل ثقافة المنطقة المضيفة. ويقترن النزوح عادة بالعجز المادي، بسوء المسكن وببؤس العيش. لذلك يبدو أن مختلف أسباب ومظاهر اللاتكيف تتضافر هنا.
مثال آخر للنزوح ويتمثل في الهجرة نحو الدول المصنعة، بحثا عن العمل. وغني عن البيان أن الاختلاف العقائدي والثقافي والاختلاف في نمط الحياة كثيرا ما يخلق لدى الطفل تمزقا في تكوينه. فهو عادة لا يحتفظ بهويته الثقافية الأصلية، ولا هو يستسلم بالكامل للثقافة الأجنبية، مما يمزق هويته الثقافية والعقائدية، ويعرضه للتهميش(1) .
أما العوامل السياسية فتتلخص عادة في الحروب و التطاحنات الداخلية أو المتعددة الأطراف. ولن نحتاج لتمحيص كبير كي نستخلص أن الحروب والنعرات العرقية التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة كان معظمها بالجنوب، وجزء كبير منها بالدول الإسلامية أو بها أطراف مسلمة. ويكفي التمثيل بقضية فلسطين، جنوب لبنان، أزمة الجزائر، الصومال، أفغانستان، البوسنة والهرسك، أزمة ألبانيا، أزمة إقليم كشمير الهندي، إقليم كاراباخ... إلى جانب حرب الخليج التي ما زالت آثارها باديةً للعيان. وقد نقلت لنا وسائل الإعلام صورا مفجعة عن نزوح ملايين الأبرياء من الأطفال والعاجزين، بحثا عن الأمن أو وسيلة للعيش. ناهيك عما خلفته وتخلفه من الأيتام والمشردين والمعاقين... .
وفي جميع الحالات وأيا كان سبب الهجرة أو النزوح الجماعي، فالذي يؤدي أكبر الثمن هو الطفل. يؤديه على شكل اقتلاع له من وسطه المألوف وحرمان من الاستقرار وحَمْله نحو اللا تكيف مع الثقافة الجديدة. ويؤديه أيضا في صورة حرمان من القوت والاستقرار، ومن الدراسة... .
سابعا : الأطفال اللاجئون
هناك معاناة مشتركة بين هذه الفئة والسابقة، وهي الحرمان من الاستقرار. إنما الذي يميز هذه هو الحرمان حتى من حق المواطنة. بحيث في ظل ظروف سياسية بالمقام الأول، واجتماعية، تضطر فئات كبيرة من سكان دول الجنوب للنزوح عن موطنهم الأصلي ومغادرة أوطانهم بحثا عن مكان آمن، وفرارا من حروب عرقية أو أهلية أو نزاعات داخلية، أو إجلاء لهم لطوارىء محتملة... وغير ذلك من الأسباب والعوامل التي تجبر المواطنين على اللجوء إلى الدول المجاورة أو الدول الأخرى.
ومعلوم أن العالم يعج بملايين اللاجئين، جلهم من الجنوب. ومعلوم هنا أيضا أن أكبر المتضررين من اللجوء السياسي أو غيره هم الأطفال، الذين ـ بحكم تغيير الإقامة ـ يجدون أنفسهم فجأة في حضن ثقافة غريبة عنهم يصعب عليهم التعايش معها. كما أن ظروف اللجوء عادة ما تكون مزرية، غير موفرة لأبسط شروط الحياة الكريمة. فكيف يمكن لطفولة مثل هذه ألا تكون محرومة اقتصاديا، لامتكيفة اجتماعيا، غير مؤهلة للمواطنة الصالحة مستقبلا؟ .
ثامنا : الأطفال الممزقون عائليا
تمزق العلاقات الأسرية قد يكون نتيجة وفاة أحد الأبوين أو كليهما، أو نتيجة انفصام الزوجية بسبب طلاق أو بسبب الهجر والإيلاء أو استحكام الخلاف بين الزوجين. وفي جميع الحالات فالظروف المعيشية تتحول غالبا إلى جحيم تذوب فيه علاقات المودة والتعاطف والتكامل والاستقرار التي من أجلها شُرِّع الزواج. وبالتالي فحياة الطفل التي ميزتها الطبيعية بالبراءة والصفاء تتحول إلى عذاب، إلى حرمان من أبسط الحقوق، لتنتهي رحلة العذاب هذه عادة إلى أزمات نفسية واجتماعية ... .
فمعلوم أن نسب الطلاق والانفصال والخلافات آخذة في التفاقم في المجتمعات الإسلامية، نظرا للتحولات الاجتماعية ـ الاقتصادية، وما يرافقها من صراع بين الثقافات، صراع يزداد حدة في الزيجات المختلطة.
والطفل في الماضي كان يجد السند والدعم لدى أفراد أسرته ولدى المحسنين في المجتمع، أما مع تعقد الحياة الاجتماعية وضَنك العيش، وتغلب الحياة المادية على الحياة الروحية، فأضحى الطفل الممزق عائليا لا يجد له من ملاذ سوى الشارع، يحتضنه، يتكفل به ليتعلم في ثناياه كل السلوكات الخطيرة والمهدِّدة لطفولته البريئة ولمستقبله، والمهدِّدة للمجتمع، عندما ينتقل الطفل من براءة الطفولة إلى الجنوح والتشرد... .
تاسعا : الأطفال غير الشرعيين (1)
هذه الظاهرة ليست جديدة، إنما الجديد فيها تفاحشها المهول ببعض المجتمعات الإسلامية. فأسبابها التقليدية ما زالت قائمة، وانضافت لها أسباب أخرى حديثة، مردُّها الانفتـاح اللامحدود الذي يصل أحيانا حد الانحلال، وتزايد جرائم العرض والاغتصاب... وزاد الأمر حدة مع الأزمات الاقتصادية وتفاحش المادية، عندما اضطرت عديد من الفتيات لبيع أعراضهن إما لكسب لقمة العيش أو للبحث عن الثراء والرفاهية... .
وبديهي أن الإسلام يعتبر الزواج المجال الشرعي للتناسل. ويلحق بالزواج الإقرار بالبنوة، كوسيلة لإلحاق النسب، إذا توفرت شروطه و لم يكذِّبه عقلٌ أو عادة، كما سنبين لاحقا. لذلك فكل طفل وُلد خارج هذا الإطار يُعدُّ غير شرعي. وإذا كان أول حق للطفل هو الحق في الانتساب لأسرة، فالطفل غير الشرعي يأتي للدنيا محروما حتى من هذا الحق، محروما من أبٍ شرعي يمنحه نسبه، ومن العائل وربما أيضا من الحاضن. فعادة ترك هؤلاء الأطفال بالأماكن العمومية، أو المستشفيات معروف لدى الجميع بما يغنينا عن الإثبات.
إنما النتيجة الحتمية، مهما اختلفت الظروف، أن الطفل غير الشرعي ينمو عادة عاجزا عن التكيف مع المجتمع، بسبب ما يعانيه من أزمات نفسية ـ اجتماعية ومادية، أزمات تنعكس على حقه في التعليم والاستقرار... وفي النهاية قد لا يجد له من مأوى سوى الشارع، يتعلم فيه كيف يتمرد على المجتمع. فيترجَم كل ذلك إلى سلوك منافٍ للقيم المتعارَف عليها. ويلتحق بآلاف الأطفال الذين تجمعهم ظروف واحدة، هي الإهمال من طرف مجتمعهم.
عاشرا : الأطفال المتكفل بهم (المتبنون)
إن لائحة الأطفال المعددة أعلاه قد يجمعها أحيانا قاسم مشترك وهو الإبعاد عن الأسرة الحقيقية. والمحظوظون منهم قد يجدون أسرة أخرى تتكفل بهم. إنما السؤال هو هل فعلا يندمجون في أسرهم المستعارة، وهل يتحقق لهم بالفعل كل ما يتحقق للطفل في الظروف الطبيعية؟.
الجواب السطحي سيكون هو الإيجاب. أما التحليل المعمق فيبين أن عديدا من الأطفال المتبَنّين أو المُنزَّلين أو المتَكَفَّل بهم يتعرضون بدورهم لأصناف من المعاناة. ذلك أن الطفل >المتبنَّى< عادة لا يحمل اسم الأسرة التي تكفلت به. وعندما يبدأ في إدراك بعض الأمور لا يلبث أن يطلع على واقعه المُرّ، فيعرف أنه ليس ابنا حقيقيا للأسرة التي >ينتسب< لها. ولا يخفى مقدار ما يثيره ذلك من صدمات، تهدد مستقبل الطفل المتبنَّى... ناهيك عن معاناته من نظرة الاحتقار التي ينظر بها المجتمع للطفل المتبنَّى عموما، معتبرا إياه دائما ابن زنى، مع أنه قد لا يكون كذلك... .
حادي عشر : الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني (أطفال الأنابيب)
وكأن العالم لم تَكفِه الأفواج الضخمة للأطفال غير الشرعيين والمتخلى عنهم، فاستحدث وسائل أخرى للاستيلاد، تساهم في تكثير أعدادهم.
ومعلوم أن الدعم الطبي للإنجاب ليس محرما شرعا، لكن بشرط ألا يؤدي إلى حشر طفل غريب في أسرة ليست له، وبالتالي خلط الأنساب.
فكثيرا ما يكون أحد الزوجين عاجزاً عن إفراز النطف اللازمة للإنجاب فيُستنجَد بنطف مانح أجنبي. وإذا كانت الدول الغربية عرفت وباتساع عادة التبرع بالنطف، فلا يجب الاعتقاد بأن المجتمعات الإسلامية في منأىً عنها، بل إن الظاهرة بدأت تشغل حيزا آخذا في الاتساع، مما يرشح أعداد الأطفال المتأتين من مني رجل غريب أو بويضة امرأة أجنبية أو رحم مستعار، للارتفاع. وعندها ستصبح الظاهرة غير مقدور عليها. ومن ثم فأنسب حل هو التصدي لها قبل أن تستفحل فيستعصى الداء ويعز الدواء.
والطفل المستولد من نطف مانح أجنبي يُلحَق بالطفل غير الشرعي. وسواء أنكرته الأسرة التي تحتضنه أم لا، فإنه معرض لمعرفة نسبه الحقيقي. وهو أمر لا يخلو من أزمات لا تختلف في شيء عن أزمات الطفل غير الشرعي. حيث يصعب التنبؤ بنوعية ردات فعله عند معرفته الحقيقة، ولا طبيعة تمرده المحتمل.
طبيعي جدا، بعد الذي أوردناه، أن نستخلص أن كل حرمان يتعرض له الطفل يعرضه للتهميش، سواء كان حرمانا من الحقوق المادية أو المعنوية: فالحرمان من الحاضن يهدده، والحرمان من الطاقات الجسدية والعقلية و الحسية أيضا يهمشه، وكذلك الشأن بالنسبة للحرمان من الهوية أو النسب أو الأسرة أو الاستقرار أوالموطن... .
فعلامات التكَيُّف أو الاندماج تختلف حسب المرحلة التي يجتازها الصغير: إذ تأخذ شكل إقبال على الحياة بما يناسبها عادة، كالإقبال على اللعب والتعلم، عدم رفض الالتزام اليومي بالتمدرس، الاستمرار فيه، نمو التفكير والذكاء، التجاوب، تقبل نواميس الحياة الاجتماعية... .
بالمقابل فالتهميش يأخذ شكل حرمان من الطفولة ومن مباهجها، حرمان من التربية والتمدرس أو حرمان من أبسط مقومات الحياة الكريمة... ثم يأخذ عدم التكيف عدة أبعاد تختلف بحسب السن والجنس... إذ قد يترجم إلى عزوف عن الدراسة أو رسوب، أو هروب من المدرسة لينتهي الأمر في جل الحالات إلى انقطاع تام عنها، وقد يأخذ شكل عصيان لأوامر الأسرة أو الأشخاص المسؤولين عن الطفل... ويصل التمرد مداه عندما يوجه نحو النفس أو نحو المجتمع بكامله، في صورة تعاط للمخدرات، أو عنف ضد الأطفال الآخرين، أو سطو وانضمام لعصابات إجرامية، أو ممارسة الدعارة... ومع التقدم في السن يتقن الطفل عديدا من وسائل الإجرام فيرشَّح لأن يصبح جانحا محترفا، إذا لم يجد منقذا في أي مرحلة من المراحل الصعبة التي يجتازها.
من ثم فإننا سنقوم بحصر فئات الأطفال المهمشين في المجتمع نتيجة أسباب مختلفة، ليقيننا بأنها الطريقة المثلى للتعريف بالطفل المهمش. ونحدد هذه الفئات فيما يلي: الأطفال الأيتام، الفقراء، المعوقون، غير المتمدرسين، المشردون، النازحون، اللاجئون، الممزقون عائليا، الأطفال غير الشرعيين، المتكفل بهم، الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني...(أطفال الأنابيب).
أولا : الأطفال الأيتام
نقصد بالطفل اليتيم كل طفل فَقَدَ أحد والديه أو كليهما. والمجتمعات الإسلامية تعُج بالأيتام وأعدادهم في تزايد مستمر بسبب ارتفاع أسباب الوفاة التي تمس البالغين بالخصوص، بعد أن انضافت عوامل حديثة للعوامل التقليدية لوفيات الكبار، كما سنبينه.
ومن المؤكد أن الطفل اليتيم كان، في ظل المجتمعات الإسلامية التقليدية، يجد السند عادة في أفراد عائلته. أما مع تحولات الحياة الاجتماعية، فحصل تضييق للأسرة وتباعد بين الأقارب، حتى أضحى مستحيلا تخيل وجود متكفل بالأيتام من بين أولئك.
ومع أن الملاجئ تحاول التخفيف من حجم الأزمة إلا أنها لا تستوعب جميع الأيتام ولا تشبع كل حاجاتهم، كما أنها لا تغطي كافة المناطق. بهذه الطريقة أضحى مصير اليتيم مهددا، بحيث لا يجد في حالات كثيرة عائلا، أو لا يجد مأوى سوى الشارع، بكل ما يرافقه من مخاطر. من ثم أضحى اليُتم أحد عوامل التهميش والإهمال وربما التشرد.
ثانيا : الأطفال الفقراء
الفقرآفة بغيضة ومنتشرة بجل الأقطار الإسلامية. وهي ظاهرة تستوي فيها الدول التي انتهجت الرأسمالية وتلك التي اختارت الاشتراكية. مما يدل على أن العيب لا يكمن في نظام أو آخر بقدر ما يكمن في سياسات التنمية المنتهجة حتى الآن بجل الأقطار. وأن التفاوت المهول بين الفئات الاجتماعية قد أفرز شرائح، ما تزال في تزايد مستمر، من الفقراء والذين يعيشون تحت عتبة الفقر.
وغني عن البيان أن أكثر المتضررين من الفقر هم الأطفال، الذين يحرمون بسببه من أبسط الحقوق والحماية. فيضطرون عادة إما لمغادرة المدارس مبكرا أو لعدم ولوجها من الأساس. كما يضطرون لبدء العمل وهم في سن اللعب وعودهم ما يزال غضًّا طرياً، أو يضطرون للتسول والتشرد والجنوح... ولعل هذا يكفي لبيان الأبعاد الاجتماعية ـ الاقتصادية للفقر.
ومن الثابت أن معظم الأطفال المحالين على العدالة ينتمون للفئات الاجتماعية الأقل حظا، وأن الأفعال المرتكبة من قبلهم هي في الغالب أعمال سطو أو سرقات، الغاية منها الحصول على مصدر للعيش، بدافع الفاقة.
ثالثا : الأطفال المعاقون
>إن لفظ معاق يدل على كل شخص لا يملك القدرة على أن يضطلع بمفرده بكامل أو بعض متطلبات حياة شخصية أو اجتماعية طبيعية. وذلك بسبب نقص خلقي أو غيره، في قدرته الجسمية أو الذهنية<. هذا التعريف تبنته هيئة الأمم المتحدة في إعلان 1969م لحقوق الطفل المعاق (م1).
فالإعاقة قد تكون عقلية أو جسدية أو حسية كما تكون ولادية أو مكتسبة، ولكل منها أسبابها. والنتيجة أن الإعاقة تحد كثيرا من طاقات الطفل وتحُول دون اكتمال خِلقته أو اكتمال تكوينه الجسدي أو العقلي أو النفسي. فينتهي به المطاف للتهميش والحرمان من حظوظ الطفل السوي المتمتع بالظروف الطبيعية للنمو والرفاه و الاندماج والإنتاج....
رابعا : الأطفال غير المتمدرسين
مما يؤسف له أن العالم الإسلامي، كما سنؤكد بالأرقام، يعاني من أعلى نسب الأمية، مقارنة مع باقي دول العالم الثالث. وما زال حتى الآن عديد من أطفاله البالغين سن التمدرس لا يلجون المدارس من الأساس أو يغادرونها بعد وقت وجيز جدا، خاصة بالبوادي والمناطق النائية، ولاسيما الإناث.
وإذا كان الكل يتفق على أن المجتمعات الحالية هي بصدد الانتقال من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة العلم والتكنولوجيا، فالنتيجة الحتمية أن كل شخص لم يتسلح بالعلم مآله أن يعيش على هامش الحياة طوال عمره. ومعلوم كذلك أن الطفل المتمدرس يقضي جل أوقاته محروسا داخل المدرسة، مما يحصنه ضد الارتماء في أحضان الشوارع بكل ما يكتنفها من مخاطر.
ومن المؤكد أيضا أن المدرسة تُؤَمِّن للطفل نصيبا من التربية و التعليم يمكنانه من الفهم والإدراك والاندماج ومواجهة المستقبل، ويحميانه من الانحراف نسبيا. كما أن برامج التعليم عادة ما تُرفَق بأنشطة موازية يُفرِغ فيها الطفل طاقاته المشحونة، فيتخلص بهذه الوسيلة من شرور الكبت والضغط النفسي الناتج عن رفض عديد من النواميس أو عن صراع الأجيال.
خامسا : الأطفال المشردون
التشرد ظاهرة حديثة أفرزها التقدم الصناعي و ما رافقه من تحولات اجتماعية وتمركز في المدن الكبرى ونشوء أحياء عشوائية وبيئات غير سليمة، ومن أزمات اقتصادية، كالبطالة وانخفاض الدخل... .
وإذا كانت الدول المتقدمة قد استيقظت مبكرا على ظاهرة التشرد وحاولت معالجتها بكافة الوسائل، فمشكلة المجتمعات الإسلامية تبدو أكثر خطورة، لكونها ما زالت تنظر للمشرَّد بلامسؤولية ولا وعي أو إدراك لخطورته على نفسه وعلى المجتمع، وبدون تفهم لأوضاعه.
والطفل المشرد لا تكفي في حقه عبارات >مهمل أو مهمش أو غير سوي أو غير متكيف<، لأن وضعه في الواقع أخطر من ذلك بكثير. فهو يشكل في البداية خطرا على نفسه ومستقبله، وعندما يزداد إتقانه للجنوح والإجرام يتحول إلى خطر على المجتمع ككل. ومعلوم أن التشرد يرافقه عادة التمرد على الضوابط الاجتماعية والقانونية. وهو يقترن في الأذهان بالتسول وتعاطي المخدرات والانحراف وتعلُّم وسائل الإجرام المحترَف... .
سادسا : الأطفال النازحون
إن التشرد قد يكون من نتائج النزوح أيضا، إنما هذا الأخير له آثار أخرى بنفس الخطورة، لذلك يجب إفراد حيز له. والنزوح أو الهجرة قد يكون داخليا، انطلاقا من نقطة معينة، في اتجاه نقطة أخرى بحثا عن الاستقرار و الطمأنينة و مصدر الرزق، وقد يكون من دولة لأخرى. وأسبابه مختلفة قد تكون اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية:... .
فالمثال التقليدي للأسباب الاقتصادية ـ الاجتماعية، الهجرة من القرى في اتجاه المدن. وهي الظاهرة التي لا تسلم منها نقطة في العالم، إنما خطرها يزداد حدة في الدول النامية عنه في الدول المتقدمة. ومن المعلوم أن الطفل يعاني أكثر من غيره عند تغيير محيطه الاجتماعي.
وتأخذ مظاهر عدم التكيف شكل عدم الاندماج في الوسط الحضري، أو صورة انبهار أو رفض لنمط الحياة الجديد أو صعوبة تقبل ثقافة المنطقة المضيفة. ويقترن النزوح عادة بالعجز المادي، بسوء المسكن وببؤس العيش. لذلك يبدو أن مختلف أسباب ومظاهر اللاتكيف تتضافر هنا.
مثال آخر للنزوح ويتمثل في الهجرة نحو الدول المصنعة، بحثا عن العمل. وغني عن البيان أن الاختلاف العقائدي والثقافي والاختلاف في نمط الحياة كثيرا ما يخلق لدى الطفل تمزقا في تكوينه. فهو عادة لا يحتفظ بهويته الثقافية الأصلية، ولا هو يستسلم بالكامل للثقافة الأجنبية، مما يمزق هويته الثقافية والعقائدية، ويعرضه للتهميش(1) .
أما العوامل السياسية فتتلخص عادة في الحروب و التطاحنات الداخلية أو المتعددة الأطراف. ولن نحتاج لتمحيص كبير كي نستخلص أن الحروب والنعرات العرقية التي عرفها العالم في السنوات الأخيرة كان معظمها بالجنوب، وجزء كبير منها بالدول الإسلامية أو بها أطراف مسلمة. ويكفي التمثيل بقضية فلسطين، جنوب لبنان، أزمة الجزائر، الصومال، أفغانستان، البوسنة والهرسك، أزمة ألبانيا، أزمة إقليم كشمير الهندي، إقليم كاراباخ... إلى جانب حرب الخليج التي ما زالت آثارها باديةً للعيان. وقد نقلت لنا وسائل الإعلام صورا مفجعة عن نزوح ملايين الأبرياء من الأطفال والعاجزين، بحثا عن الأمن أو وسيلة للعيش. ناهيك عما خلفته وتخلفه من الأيتام والمشردين والمعاقين... .
وفي جميع الحالات وأيا كان سبب الهجرة أو النزوح الجماعي، فالذي يؤدي أكبر الثمن هو الطفل. يؤديه على شكل اقتلاع له من وسطه المألوف وحرمان من الاستقرار وحَمْله نحو اللا تكيف مع الثقافة الجديدة. ويؤديه أيضا في صورة حرمان من القوت والاستقرار، ومن الدراسة... .
سابعا : الأطفال اللاجئون
هناك معاناة مشتركة بين هذه الفئة والسابقة، وهي الحرمان من الاستقرار. إنما الذي يميز هذه هو الحرمان حتى من حق المواطنة. بحيث في ظل ظروف سياسية بالمقام الأول، واجتماعية، تضطر فئات كبيرة من سكان دول الجنوب للنزوح عن موطنهم الأصلي ومغادرة أوطانهم بحثا عن مكان آمن، وفرارا من حروب عرقية أو أهلية أو نزاعات داخلية، أو إجلاء لهم لطوارىء محتملة... وغير ذلك من الأسباب والعوامل التي تجبر المواطنين على اللجوء إلى الدول المجاورة أو الدول الأخرى.
ومعلوم أن العالم يعج بملايين اللاجئين، جلهم من الجنوب. ومعلوم هنا أيضا أن أكبر المتضررين من اللجوء السياسي أو غيره هم الأطفال، الذين ـ بحكم تغيير الإقامة ـ يجدون أنفسهم فجأة في حضن ثقافة غريبة عنهم يصعب عليهم التعايش معها. كما أن ظروف اللجوء عادة ما تكون مزرية، غير موفرة لأبسط شروط الحياة الكريمة. فكيف يمكن لطفولة مثل هذه ألا تكون محرومة اقتصاديا، لامتكيفة اجتماعيا، غير مؤهلة للمواطنة الصالحة مستقبلا؟ .
ثامنا : الأطفال الممزقون عائليا
تمزق العلاقات الأسرية قد يكون نتيجة وفاة أحد الأبوين أو كليهما، أو نتيجة انفصام الزوجية بسبب طلاق أو بسبب الهجر والإيلاء أو استحكام الخلاف بين الزوجين. وفي جميع الحالات فالظروف المعيشية تتحول غالبا إلى جحيم تذوب فيه علاقات المودة والتعاطف والتكامل والاستقرار التي من أجلها شُرِّع الزواج. وبالتالي فحياة الطفل التي ميزتها الطبيعية بالبراءة والصفاء تتحول إلى عذاب، إلى حرمان من أبسط الحقوق، لتنتهي رحلة العذاب هذه عادة إلى أزمات نفسية واجتماعية ... .
فمعلوم أن نسب الطلاق والانفصال والخلافات آخذة في التفاقم في المجتمعات الإسلامية، نظرا للتحولات الاجتماعية ـ الاقتصادية، وما يرافقها من صراع بين الثقافات، صراع يزداد حدة في الزيجات المختلطة.
والطفل في الماضي كان يجد السند والدعم لدى أفراد أسرته ولدى المحسنين في المجتمع، أما مع تعقد الحياة الاجتماعية وضَنك العيش، وتغلب الحياة المادية على الحياة الروحية، فأضحى الطفل الممزق عائليا لا يجد له من ملاذ سوى الشارع، يحتضنه، يتكفل به ليتعلم في ثناياه كل السلوكات الخطيرة والمهدِّدة لطفولته البريئة ولمستقبله، والمهدِّدة للمجتمع، عندما ينتقل الطفل من براءة الطفولة إلى الجنوح والتشرد... .
تاسعا : الأطفال غير الشرعيين (1)
هذه الظاهرة ليست جديدة، إنما الجديد فيها تفاحشها المهول ببعض المجتمعات الإسلامية. فأسبابها التقليدية ما زالت قائمة، وانضافت لها أسباب أخرى حديثة، مردُّها الانفتـاح اللامحدود الذي يصل أحيانا حد الانحلال، وتزايد جرائم العرض والاغتصاب... وزاد الأمر حدة مع الأزمات الاقتصادية وتفاحش المادية، عندما اضطرت عديد من الفتيات لبيع أعراضهن إما لكسب لقمة العيش أو للبحث عن الثراء والرفاهية... .
وبديهي أن الإسلام يعتبر الزواج المجال الشرعي للتناسل. ويلحق بالزواج الإقرار بالبنوة، كوسيلة لإلحاق النسب، إذا توفرت شروطه و لم يكذِّبه عقلٌ أو عادة، كما سنبين لاحقا. لذلك فكل طفل وُلد خارج هذا الإطار يُعدُّ غير شرعي. وإذا كان أول حق للطفل هو الحق في الانتساب لأسرة، فالطفل غير الشرعي يأتي للدنيا محروما حتى من هذا الحق، محروما من أبٍ شرعي يمنحه نسبه، ومن العائل وربما أيضا من الحاضن. فعادة ترك هؤلاء الأطفال بالأماكن العمومية، أو المستشفيات معروف لدى الجميع بما يغنينا عن الإثبات.
إنما النتيجة الحتمية، مهما اختلفت الظروف، أن الطفل غير الشرعي ينمو عادة عاجزا عن التكيف مع المجتمع، بسبب ما يعانيه من أزمات نفسية ـ اجتماعية ومادية، أزمات تنعكس على حقه في التعليم والاستقرار... وفي النهاية قد لا يجد له من مأوى سوى الشارع، يتعلم فيه كيف يتمرد على المجتمع. فيترجَم كل ذلك إلى سلوك منافٍ للقيم المتعارَف عليها. ويلتحق بآلاف الأطفال الذين تجمعهم ظروف واحدة، هي الإهمال من طرف مجتمعهم.
عاشرا : الأطفال المتكفل بهم (المتبنون)
إن لائحة الأطفال المعددة أعلاه قد يجمعها أحيانا قاسم مشترك وهو الإبعاد عن الأسرة الحقيقية. والمحظوظون منهم قد يجدون أسرة أخرى تتكفل بهم. إنما السؤال هو هل فعلا يندمجون في أسرهم المستعارة، وهل يتحقق لهم بالفعل كل ما يتحقق للطفل في الظروف الطبيعية؟.
الجواب السطحي سيكون هو الإيجاب. أما التحليل المعمق فيبين أن عديدا من الأطفال المتبَنّين أو المُنزَّلين أو المتَكَفَّل بهم يتعرضون بدورهم لأصناف من المعاناة. ذلك أن الطفل >المتبنَّى< عادة لا يحمل اسم الأسرة التي تكفلت به. وعندما يبدأ في إدراك بعض الأمور لا يلبث أن يطلع على واقعه المُرّ، فيعرف أنه ليس ابنا حقيقيا للأسرة التي >ينتسب< لها. ولا يخفى مقدار ما يثيره ذلك من صدمات، تهدد مستقبل الطفل المتبنَّى... ناهيك عن معاناته من نظرة الاحتقار التي ينظر بها المجتمع للطفل المتبنَّى عموما، معتبرا إياه دائما ابن زنى، مع أنه قد لا يكون كذلك... .
حادي عشر : الأطفال المستَولَدون من تخصيب تقني (أطفال الأنابيب)
وكأن العالم لم تَكفِه الأفواج الضخمة للأطفال غير الشرعيين والمتخلى عنهم، فاستحدث وسائل أخرى للاستيلاد، تساهم في تكثير أعدادهم.
ومعلوم أن الدعم الطبي للإنجاب ليس محرما شرعا، لكن بشرط ألا يؤدي إلى حشر طفل غريب في أسرة ليست له، وبالتالي خلط الأنساب.
فكثيرا ما يكون أحد الزوجين عاجزاً عن إفراز النطف اللازمة للإنجاب فيُستنجَد بنطف مانح أجنبي. وإذا كانت الدول الغربية عرفت وباتساع عادة التبرع بالنطف، فلا يجب الاعتقاد بأن المجتمعات الإسلامية في منأىً عنها، بل إن الظاهرة بدأت تشغل حيزا آخذا في الاتساع، مما يرشح أعداد الأطفال المتأتين من مني رجل غريب أو بويضة امرأة أجنبية أو رحم مستعار، للارتفاع. وعندها ستصبح الظاهرة غير مقدور عليها. ومن ثم فأنسب حل هو التصدي لها قبل أن تستفحل فيستعصى الداء ويعز الدواء.
والطفل المستولد من نطف مانح أجنبي يُلحَق بالطفل غير الشرعي. وسواء أنكرته الأسرة التي تحتضنه أم لا، فإنه معرض لمعرفة نسبه الحقيقي. وهو أمر لا يخلو من أزمات لا تختلف في شيء عن أزمات الطفل غير الشرعي. حيث يصعب التنبؤ بنوعية ردات فعله عند معرفته الحقيقة، ولا طبيعة تمرده المحتمل.
طبيعي جدا، بعد الذي أوردناه، أن نستخلص أن كل حرمان يتعرض له الطفل يعرضه للتهميش، سواء كان حرمانا من الحقوق المادية أو المعنوية: فالحرمان من الحاضن يهدده، والحرمان من الطاقات الجسدية والعقلية و الحسية أيضا يهمشه، وكذلك الشأن بالنسبة للحرمان من الهوية أو النسب أو الأسرة أو الاستقرار أوالموطن... .