درس الشخص

الطرح الإشكالي

إن الحديث عن الشخص هو حديث عن الذات أو الأنا، والشخص هو مجموع السمات المميزة للفرد الذي هو في الأصل كيان نفسي واجتماعي متشابه مع الآخرين، ومتميز عنهم في نفس الوقت، لكن هويته ليست معطى جاهزا، بل هي خلاصة تفاعل عدة عناصر فيها ما هو بيولوجي، وما هو نفسي، وما هو اجتماعي …، وهذا ما يجعلنا نطرح إشكال الشخص على شكل أسئلة فلسفية وهي:
  • فيما تتمثل هوية الشخص؟
  • أين تكمن قيمته؟
  • هل الشخص في حر تصرفاته؟ أم يخضع لضرورات حتمية؟

المحور الأول: الشخص والهوية

الهوية والشعور

تتمثل هوية الشخص في نظر "جون لوك" في كونه كائنا عاقلا قادرا على التفكير والتأمل بواسطة الشعور الذي يكون لديه عن أفعاله الخاصة، حيث لا يمكن الفصل بين الشعور والفكر، لأن الكائن البشري لا يمكن أن يعرف أنه يفكر إلا إذا شعر أنه يفكر، وكلما امتد هذا الشعور ليصل إلى الأفعال والأفكار الماضية، اتسعت وامتدت هوية الشخص لتشمل الذاكرة، لأن الفعل الماضي صدر عن الذات نفسها التي تدركه في الحاضر، إن هذا الشعور حسب لوك هو الذي يشكل الهوية الشخصية للفرد التي تجعله يشعر أنه هو هو لا يتغير، كما تجعله يشعر باختلافه عن الآخرين.

الهوية والإرادة

يلاحظ آرثر شوبنهاور أن الفرد يكبر ويشيخ، لكنه يحس في أعماقه أنه لازال هو هو كما كان في شبابه وحتى في طفولته، هذا العنصر الثابت هو الذي يشكل هوية الشخص، إلا أن شوبنهاور لا يرجع أصل الهوية إلى الجسم، لأن هذا الأخير يتغير عبر السنين، سواء على مستوى مادته أو صورته، في حين أن الهوية ثابتة الشعور بالذاكرة والماضي، لأن الكثير من الأحداث الماضية للفرد يطويها النسيان، كما أن إصابة في المخ قد تحرمه من الذاكرة بشكل كلي، ومع ذلك فهو لا يفقد هويته العقل والتفكير، لأنه ليس إلا وظيفة بسيطة للمخ، إن هوية الشخص في تصور شوبنهاور تتمثل في الإرادة، أي في أن نريد أو لا نريد.

المحور الثاني: الشخص بوصفه قيمة

قيمة الشخص في ذاته

إن الكائنات العاقلة (الأشخاص) في تصور إيمانويل كانط لها قيمة مطلقة باعتبارها غاية في حد ذاتها، وليست مجرد وسيلة لغايات أخرى، في مقابل الموضوعات غير العاقلة (الأشياء) التي ليست له اإلا قيمة نسبية، قيمة مشروطة بميولات وحاجات الإنسان لها، حيث لو لم تكن هذه الميولات والحاجات موجودة لكانت تلك الموضوعات بدون قيمة، إن لها قيمة الوسائل فقط وهذا ما يحتم على الشخص حسب كانط، الالتزام بمبدأ عقلي أخلاقي عملي إن: هو الطبيعة العاقلة (الشخص) توجد كغاية في ذاتها.

قيمة الشخص والجماعة

إن فكرة استقلال الذات المفكرة والشخص الأخلاقي، وكما تمت صياغتها من طرف الفلاسفة (ديكارت، كانط...) لم تتحقق في الفكر الإنساني إلا في وقت متأخر في نظر جورج غوسدورف، لكن بالرجوع إلى بداية الوجود الإنساني وكما عاشها الناس فعليا، فإننا نجد الفرد كان يعيش ضمن الجماعة من خلال أشكال التضامن البسيطة والأساسية (الأسرة، العشيرة، القبيلة ...) التي سمحت لهذه الجماعة بالبقاء، إن قيمة الشخص إذن لا تتحدد في مجال الوجود الفردي حسب غوسدورف، ولكن في مجال التعايش داخل المجموعة البشرية.

المحور الثالث: الشخص بين الضرورة والحرية

الشخص والضرورة

لقد أقر سيغموند فرويد للأنا بوجود مستقل كأحد مكونات الجهاز النفسي للشخصية، وله نشاط شعوري يتمثل في الإدراك الحسي الخارجي والإدراك الحسي الداخلي، والعمليات الفكرية، ويضطر للخضوع لثلاث ضغوطات متناقضة، وهي الهو الذي يتمثل في الدوافع الفطرية والغريزية، والأنا الأعلى الذي يتجلى في الممنوعات الصادرة عن المثل الأخلاقية، والعقاب الذي تمارسه بواسطة تأنيب الضمير، إضافة إلى الحواجز التي يضعها العالم الخارجي والاجتماعي، إن الأنا يخضع حسب فرويد، لضرورات الهو، والأنا الأعلى، والعالم الخارجي.

الشخص والحرية

إن الإنسان حسب سارتر يوجد أولا، أي ينبثق في هذا العالم ثم يتحدد بعد ذلك وفق ما سيصنع بنفسه، وكما يريد أن يكون في المستقبل، إن الإنسان مشروع يعاش بكيفية ذاتية، هذا الكائن المادي يتجاوز دائما الوضعية التي يوجد فيها، ويحددها، وذلك بالتعالي عليها لكي يتموضع بواسطة الشغل أو الفعل أو الحركة في إحدى الإمكانات المتاحة أمامه، وبما أن هذه الوثبة تتخذ أشكالا متنوعة بحسب الأفراد، فإننا نسميها كذلك اختيارا وحرية، إن الشخص في نظر سارتر يتمثل قي قدرته على الحرية في الاختيار.

استنتاجات عامة

إن هوية الشخص ليست معطى بسيطا، بل هي عنصر مركب يتشكل من مجموع السمات التي تميز ذات الإنسان، والتي تتجلى في الخصائص الجوهرية والثابتة فيه كالعقل، والشعور، والإرادة.
إن قيمة الشخص ذات طبيعة مزدوجة، فهي قيمة تمسه كفرد يمتلك كرامة تلزمنا أن نتعامل معه كغاية في ذاته، كما تمسه كعنصر داخل الجماعة ما دامت الجماعة هي التي تمنح الفرد قيمته.
إن الشخص يخضع لمجموعة من الشروط التي تتحكم في أفعاله وتصرفاته، لكنه في نفس الوقت يمتلك هامشا من الحرية، يستطيع من خلاله أن يعدل إن لم نقل يغير تلك الشروط.
***********


الطرح الإشكالي

إن مفهوم الغير من المفاهيم الفلسفية الحديثة التي لم تحتل مركز الصدارة إلا مع فلسفة هيغل، بعدما كان كل اهتمام التفكير الفلسفي يتمحور حول الذات، وبما أن الذات قد تنتج أفكارا خاطئة حول موضوعات خارجية نتيجة خداع الحواس، فإن هذا الأمر قد يدفع إلى الشك في الغير، ووضع وجوده بين قوسين، مما يترتب عن ذلك أن إنتاج معرفة حول الغير تتميز بالاختلاف، بل احتمال عدم إنتاجها أصلا، إضافة إلى تعدد وتنوع العلاقة التي تربطنا به، وهذا ما يمكن التعبير عنه بواسطة الأسئلة الآتية:

هل الغير موجود أم لا؟

هل معرفة الغير ممكنة؟ وإن كانت كذلك كيف يمكن أن نبني هذه المعرفة؟

ما طبيعة العلاقة التي تربط الذات بالغير؟

المحور الأول: وجود الغير

وجود الغير والصراع

يكون وعي الذات وجودا بسيطا لذاته حسب فريدريك هيغل تقوم ماهيته في كونه أنا، غير أن الآخر هو أيضا وعي لذاته، باعتباره لا / أنا، هكذا تنبثق ذات أمام ذات، يكون كل واحد بالنسبة للآخر عبارة عن موضوع، كل منهما متيقن من وجود ذاته، وليس متيقنا من وجود الآخر، لكن مازال لم يقدم بعد أحدهما نفسه للآخر، تتمثل عملية تقديم الذات لنفسها أمام الآخر في إظهار أنها ليست متشبثة بالحياة، وهي نفس العملية التي يقوم بها الآخر حينما يسعى إلى موت الآخر، أي الأنا، إن وجود الغير بالنسبة للأنا في تصور هيغل يتم بواسطة الصراع من أجل الحياة والموت، لأن على كل منهما أن يسمو بيقين وجوده إلى مستوى الحقيقة بالنسبة لذاته، وبالنسبة للآخر.

وجود الغير ووجود الذات

إن الموجود هنا باعتباره وجودا فرديا خاصا لا يكون مطابقا لذاته – في نظر مارتن هايدغر – عندما يوجد على نمط الوجود "مع / الغير"، فهذا الوجود المشترك يذيب كليا الموجود هنا، الذي هو وجودي الخاص في نمط وجود الغير، بحيث يجعل الآخرين يختفون ويفقدون ما يميزهم وما ينفردون به، مما يسمح بسيطرة الضمير المبني للمجهول، هذا المجهول ليس شخصا متعينا، إنه لا أحد، كما أن بإمكان أي كان أن يمثله، إن وجود الغير – في تصور هايدغر – يهدد وجود الذات من خلال إذابتها وسط الآخرين، ووسط المجهول.

المحور الثاني: معرفة الغير

الغير والحميمية

إن حميميتي، أي حياتي الخاصة هي عائق أمام كل تواصل مع الغير، يقول غاستون بيرجي: "حيث تجعلني سجين ذاتي، فالتجربة الذاتية وحدها هي الوجود الحقيقي بالنسبة لي، وهي تجربة غير قابلة للنقل إلى الآخر، فأنا أعيش وحيدا وأشعر بالعزلة، كما أن عالم الغير منغلق أمامي بقدر انغلاق عالمي أمامه، فعندما يتألم الغير يمكنني مساعدته، ومواساته ومحاولة تخفيف الألم الذي يمزقه، غير أن ألمه يبقى رغم ذلك ألما خارجيا بالنسبة لذاتي، فتجربة الألم تظل تجربته الشخصية وليست تجربتي"، وهكذا تتعذر معرفة الغير – في نظر بيرجي – مادام الإنسان كائنا سجينا في آلامه، ومنعزلا في لذّاته، ووحيدا في موته، محكوما عليه بأن لا يشبع أبدا رغبته في التواصل.

الغير بنية

إن الغير ليس فردا مشخصا بعينه – حسب جيل دولوز – بل هو بنية أو نظام العلاقات والتفاعلات بين الذوات والأشخاص، يتجلى هذا النظام في المجال الإدراكي الحسي، مثلا فأنا حين أدرك الأشياء المحيطة بي لا أدركها كلها ومن جميع جهاتها وجوانبها وباستمرار، وهذا يفترض أن يكون ثمة آخرون يدركون مالا أدركه من الأشياء، وفي الوقت الذي لا أدركه، وإلا بدت الأشياء وكأنها تنعدم حين لا أدركها وتعود إلى الوجود حين أدركها مجددا، وإذا كان هذا مستحيلا، فإن الغير إذن يشاركني إدراك الأشياء، ويكمل إدراكي لها، وهكذا يجرد دولوز الغير من معناه الفردي المشخص، ويضمنه معنى بنيويا.

المحور الثالث: العلاقة مع الغير

علاقة الصداقة

إن الصداقة باعتبارها مثالا هي اتحاد شخصين يتبادلان نفس مشاعر الحب والاحترام، في نظر إيمانويل كانط وغاية هذا المثال هو تحقيق الخير للصديقين الذين جمعت بينهما إرادة طيبة، يتولد عن مشاعر الحب تجاذب بين الصديقين، في حين يتولد عن مشاعر الاحترام تباعد بينهما، إذا تناولنا الصداقة من جانبها الأخلاقي فواجب الصديق تنبيه صديقه إلى أخطائه متى ارتكابها، لأن الأول يقوم بهذا التنبيه لأجل خير الثاني، وهذا واجب حب الأول للثان، بينما تشكل أخطاء الثاني تجاه الصديق الأول إخلالا بمبدأ الاحترام بينهما، لا يجب إذن أن تقوم الصداقة – حسب كانط – على منافع مباشرة ومتبادلة، بل يجب أن تقوم على أساس أخلاقي خالص.

علاقة الغرابة

لقد رفضت جوليا كريستيفا المعنى اليوناني القديم لمفهوم الغريب المرتبط بالآخر، الذي نكن له مشاعر الحقد باعتباره ذلك الدخيل المسؤول عن شرور المدينة، أو ذلك العدو الذي يتعين القضاء عليه لإعادة السلم إلى المجتمع، إن الغريب في نظرها يسكننا على نحو غريب، ونحن إذ نتعرف على الغريب فينا نستبعد أن نبغضه في ذاته، إن الغريب يبدأ عندما ينشأ لدي – تقول كريستيفا – الوعي باختلافي، وينتهي عندما نتعرف على أنفسنا جميعا وندرك أننا غرباء متمردون على الروابط والجماعات، كما انتقدت كريستيفا الدلالة الحقوقية المعاصرة للغريب التي تطلق على من لا يتمتع بمواطنة البلد الذي يقطنه، لأنها تسكت عن وضعية المختلف التي يتخذها الإنسان داخل جماعة بشرية تنغلق على نفسها مقصية المخالفين لها.

استنتاجات عامة

هناك فرق بين الآخر والغير، فإذا كان الآخر هو ذلك الكائن المادي الذي يتميز بوجود واقعي إلى جانب أو في مقابل الذات، فإن الغير مفهوم فلسفي نظري يتضمن الخصائص المجردة للآخر.

إن مفهوم الغير مفهوم يتضمن معرفة متناقضة حول الآخر، فتارة يحدده كأنا آخر باعتباره متطابقا مع الذات، وطورا يحدده باعتباره لا – أنا مركزا على مظاهر التناقض مع الذات.


إن العلاقة مع الغير في الحقيقة هي علاقة بصيغة الجمع، تتميز بالتعدد والتنوع. تبدأ بعلاقة الحب والاحترام والصداقة، مرورا بعلاقة الغرابة والقرابة …، وتنتهي مع علاقة الصراع والتنافس والعداوة.

المزيد حول الموضوع

الربح من الفايسبوك والانستغرام باختصاار الروابط