ليلى أبوزيد رجوع إلى الطفولة







"رجوع إلى الطفولة" وأفق السيرة الداتية

يتقدم نص ليلى أبوزيد "رجوح إلى الطفولة" إلى القارئ على أساس أنه سيرة ذاتية، كتبتها الكاتبة وفق طلب "من الأستاذة اليزابيت فرنيان أستاذة الأدب الإنجليزي والدراسات الشرق الأوسطية في جامعة تكساس بأوستين لينشر بالإنجليزية في كتاب جماعي يصدر في الولايات المتحدة لكتاب عرب عن طفولتهم"[i].
وهو تصريح نصي يعلن من البداية أننا بصدد سيرة ذاتية للمؤلفة "ليلى أبو زيد"، ونكون بذلك غير معنيين – على الأقل في مستوى هذا النص – بأسئلة الالتباس التي تحدث لنصوص نسائية لا تكشف عن جنسها الأدبي، أو تلتحق بجنس الرواية خوفاً من التصريح بسيرة الكاتبة.
كيف عبرت "ليلى أبو زيد" عن طلب الحكي عن أنا ها ؟
وهل حققت على مستوى الكتابة السردية، تطابقاً بين شخصية الساردة والمؤلفة والبطلة، والتزمت بالتعاقد المبرم بين الكاتب والقارئ كما يرى فيليب لوجون ؟
تحكي "رجوع إلى الطفولة" وضعية المغرب بين زمنين : زمن الاستعمار الفرنسي، وهو الزمن المهيمن حكاية والمؤثر خطاباً. ثم زمن الاستقلال الذي ينتهي به النص لينفتح على أسئلة مرحلة الاستقلال، وهو زمن لم يشكل ثقلاً حكائياً وخطابياً، ويحضر فقط كإشارات لكنها قوية عن التغييرات التي حدثت لمجموعة من الذين قاوموا الاستعمار ومنهم والد الساردة.
تشكل الزمن الأول من أحداث اجتماعية وسياسية، تمحورت حول أم الساردة –الكاتبة، وحياتها وترحالها وانتقالاتها بين مدن عديدة بحثاً عن زوجها (والد الساردة) الذي كان الاستعمار يعتقله كل مرة.
نلاحظ في مستوى هذه الحكاية أن الساردة – الكاتبة وإن كانت هي الحاكية لنص "رجوع إلى الطفولة" لأنها المعنية بحكي سيرة ذاتها، فإن ضميرها/ ذاتها لا يدخل مجال النص منفرداً. وإنما ينخرط مع الافتتاح السردي لهذه السيرة في نون الجماعة تقول : "توقفت الحافلة في الطريق الرابطة بين فاس ومراكش عند علامة القصيبة على حافة منعرج جانبي صاعد في الأطلس المتوسط ونزلنا وأنزل مساعد السائق متاعنا ثم انطلقت الحافلة بسرعة، وقطعنا الطريق" (ص.9).
ثم بعد ذلك، تقف عند مستوى تسليم دور السرد إلى ضمائر أخرى، فتصبح وظيفتها هي التوزيع والترتيب والتنظيم.
تأخذ الأم دور الساردة الرئيسية أو الشخصية المحورية، والذات الفاعلة بامتياز في مجرى أحداث هذه السيرة. نبدأ بهذا الشكل نبتعد – تدريجياً – عن شبه المتفق عليه نصياً ونظرياً للسيرة الذاتية، وذلك عندما تتراجع ذات الساردة الكاتبة، وتحل محلها ذات الأم وبجانبها ذوات أخرى حاكية مثل الجدة.
في هذه السيرة تشكل ذات الأم حالة خاصة تنكتب لتوثق للحظة تاريخية من زمن المغرب، لحظة بدأت فردية تخص علاقتها بزوجهات "أحمد أبو زيد" الذي كانت له مواقف ضد الاستعمار الفرنسي، فتم اعتقاله، وبسبب ذلك واجهت مشاكل اجتماعية مع عائلة زوجها مما جعلها تأخذ بناتها وتغادر بيت الزوجية.
لا شك أن الساردة –الكاتبة ليلى أبو زيد – بمحاولة استعادتها لطفولتها، أرادت استحضار الأم التي صنعت هذه الطفولة، وفعلت في زمنها وتاريخها. وهي بفعل بناء السيرة بهذا الشكل مع طريقة الحكي المعتمدة على استثمار مختلف أشكال الحكي الشعبي (حكايات الجدة، أحاديث النساء...) وكذا الأصوات واللغات الاجتماعية التي ميّزت هذه الكتابة، بإدراج سياقاتها التلفظية مما أغنى هذه السيرة، وجعلها تخلق تنوعها من داخل بنيتها، فإن الساردة – الكاتبة أنتجت معرفة جدية حول زمن الاستعمار، ومرحلة من تاريخ المغرب وذلك عندما أخرجت ذات الأم (المرأة المغربية) من الصمت التاريخي وأحيتها سردياً، وأدخلتها المجال النصي ثم دفعت بها نحو الإنجاز الإخباري، فحدث أن حمل هذا الإنجاز أفعالاً أنتجتها الأم فيما هي تبحث عن اكتمال هويتها، لأن دخول زوجها (أحمد بو زيد) إلى السجن جعلها تفقد الآخر الذي به تكتمل، وهذا ما دفع بعائلة زوجها إلى الزج بها في مشاكل كثيرة، فكان عليها أن تخرج وتبحث عن اكتمالها، عن زوجها وذاتها التي أصبحت مهددة في وجودها داخل بنية اجتماعية تحكمها الأعراف أكثر من القوانين.
بهذا الحضور القوي للأم يتحول رهان السيرة من الحكي عن الخاص والفردي والذاتي إلى الحكي عن العام والاجتماعي، عن الأم والتاريخ، أو بالأحرى عن المرأة – عن النساء – عن دور المرأة في المقاومة.. وفي تجاوز الإكراهات والوصول إلى السجن ومد المعتقلين بالأخبار وإيصال الأسلحة إلى المقاومين، عن دور المرأة المغربية في مقاومة الاستعمار الفرنسي.
ولعل الأم وطبيعة حضورها لم تؤثر فقط في مجرى الأحداث، بقدر ما فعلت في الأسلوب والبناء.
شكل الكتابة في "رجوع إلى الطفولة"
من أجل إعادة إنتاج حكاية الطفولة كما عاشتها الكاتبة "ليلى أبو زيد" فقد اعتمدت الساردة – الكاتبة على عنصر التذكر، وإعطاء الأم (منبع الحكي) مسؤولية سرد توالي الطفولة. وانعكس هذا الحكي على تركيب الجمل التي خضعت للعطف بشكل ملفت للنظر. بالإضافة إلى اعتماد التحديد الدقيق والمفصل للمكان والمدينة، والاستحضار اليومي في تفاصيله وجزئياته الصغيرة، والتي في تدفقها الحكائي تصبح مشاهد قوية، وذات معنى وهذا يدل على أن الساردة عندما تحكي بكل هذه التفصيلات والجزئيات لليومي في تمفصلاته، ومظاهره البسيطة لا تنطلق من وعي مسبق بأنها تقدم لحظات قوية، ولكن طريقة الحكي التي تلتقط كل شيء، وتعتمد على التذكر الشفهي، هي التي تصل باللحظات المحكية إلى لحظات دلالية. وهذا يعبر – مرة أخرى – عن أن المرأة – الكاتبة عندما تنتج سيرتها الذاتية لا تسعى إلى توثيق الذات، وإعلان قوتها وحكمتها بدافع التأثير في الآخر والمتلقي، ولكن انطلاقاً من كونها تدخل مجال التعبير بذات غير مكتملة، فإنها لا توثق لذات هي أصلاً لا تعيها إلا في انهزامها.

ولهذا، فهي تكتب السيرة الذاتية لتقرأ حدود هذه الذات، انطلاقاً من البسيط والجزئي واليومي، على اعتبار أنها لا تملك قناعات مسبقة.. إنها ذات تتشكل في لحظة الوعي بتاريخها. لا تكتب المرأة ذاتها في السيرة، لأنها لا تنطلق من وهم التوثيق لذات لا تزال في الوعي والعرف والسلوك غير مكتملة.

المزيد حول الموضوع

الربح من الفايسبوك والانستغرام باختصاار الروابط